عمارة الدنيا عند الجويني


 قال أبو المعالي الجويني (ت: 478) رحمه الله: «الدنيا إنما تُرعى من حيث يستَمَدُّ استمرارُ قواعد الدين منها، فهي مرعيَّةٌ على سبيل التبعيَّة، ولولا مسيس الحاجة إليها على هذه القضية؛ لكانت الدنيا الدَّنية حَرِيةً بأن نُضْرِبَ عنها بالكلية» (غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق: عبد العظيم الديب، مكتبة إمام الحرمين، القاهرة: 1401، 152).

 هذا الكلام من أبي المعالي الجوينيِّ رحمه الله يُعدُّ من عيون التقريرات الشرعية لتضمنه لجملة من المسائل المرعية التي سنبيِّنها من خلال وقفات علمية:

الوقفة الأولى: إقامة الدِّين قضيةٌ غائيةٌ ـ أي: مقصد أصليٌّ ـ، والأخذ بما لا بُدَّ منه من الدنيا وسيلةٌ ـ أي مقصِدٌ تبعيٌّ ـ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ففرقٌ بين من يكون الدِّين مقصوده والدنيا وسيلةٌ، ومن تكون الدنيا مقصوده والدين وسيلةٌ. والأشبه أنَّ هذا ليس له في الآخرة من خلاقٍ؛ كما دلَّت عليه نصوص ليس هذا موضعها» (الفتاوي: 26/20).

الوقفة الثانية: ضرورة الحفاظ على ميزان الأولويات بين ما لا بُدَّ منه من الأمر الدنيوي، وهو مهمٌّ لكونه وسيلةً، والأمر الديني، وهو الأهمُّ، لكونه غايةً، فـ: «الغايات أشرفُ من الوسائل»، كما قال ابن القيم في (مفتاح دار السعادة: 1/133). و: «ترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور»، كما قال أبو حامد الغزالي في (الإحياء 3/403).

الوقفة الثالثة: لا يُخرَج من الدنيا بالكلية، فهذا من تلبيس إبليس لمخالفة ذلك للحنيفية السمحة، فالله تعالى لما أشار إلى الدنيا في كتابه قال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]. ويقابل حال الاعتدال أن يرتع المرء في مستنقع الدنيا الدنية باقتراف ما حرم الله فيها، وتجاوز الحد فيما أحلّه، واللهث وراء حطامها الفاني.

قال ابن الجوزي رحمه الله: «قد يسمع العاميُّ ذم الدنيا في القرآن المجيد والأحاديث فيرى أن النجاة تركها، ولا يدري ما الدنيا المذمومة، فيلبس عليه إبليس: بأنك لا تنجو في الآخرة إلا بترك الدنيا. وإنما المذموم أخذ الشيء من غير حله، أو تناوله على وجه السرف، لا على مقدار الحاجة، وتصرُّفُ النفس فيه بمقتضى رعوناتها لا بإذن الشرع» (تلبيس إبليس: ص: 145).

الوقفة الرابعة: إذا كانت مراعاة ما يحتاج إليه من الدنيا هو لاستمرار قواعد الدين، فهذا يدلُّ على ضرورة اعتبار شرط الإحسان عند أخذ ما لا بُدَّ منه من الأمور الدنيوية، والحذر من الفساد والإفساد. قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].

 قال ابن كثير رحمه الله في ((تفسيره)): «{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أي: أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك، {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} أي: لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد في الأرض، وتسيء إلى خلق الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}».

الوقفة الخامسة: ما قرره الجويني رحمه الله يؤكد صحة قولِ من قالَ ـ في سياق الاستصلاح ـ: «من القرآن إلى العمران لا العكس». فلا شكَّ عند من التصقت ثقافته بالوحي، ولازم الكتاب والسنة على طريقة السلف الصالح أن الدين أساس سلامة عمارة الأرض وصلاح المدنية؛ كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أيها الناس أصلحوا آخرتكم تصلح لكم دنياكم. (حلية الأولياء 5/266).

وقال الماورديُّ رحمه الله: «الدين أقوى قاعدةٍ في صلاح الدنيا واستقامتها، وأجدى الأمور نفعًا في انتظامها وسلامتها، ولذلك لم يُخل الله تعالى خلقه مذ فطرهم عقلاء من تكليف شرعي، واعتقاد ديني ينقادون لحكمه فلا تختلف بهم الآراء، ويستسلمون لأمره فلا تتصرف بهم الأهواء». (أدب الدنيا والدين ص: 121).

الوقفة السادسة: ما قرره الجويني في كلامه رحمه الله يَنقُض ما اصطلح عليه بــ: (التفسير السياسي للإسلام)، أو (التفسير النفعي للإسلام)، وهو تفسير منحرف يتمثل في جعل (المقصد الأصلي) من الدين وأحكامه: تحقيقَ المنافع الدنيوية. قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].

قال الإمام البغوي رحمه الله في تفسير الآية: «{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} اللهو هو: الاستمتاع بلذات الدنيا، واللعب: العبث، سميت بهما لأنها فانية. {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أي: الحياة الدائمة والباقية، والحَيَوان: بمعنى الحياة، أي: فيها الحياة الدائمة، {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فناء الدنيا وبقاء الآخرة». (معالم التنزيل 6/ 255).

الوقفة السابعة: كلام الجويني رحمه الله يبيِّن بطلان تغليب جانب العدل الدنيوي في الخطاب الإصلاحي، والغلو في ذلك. فهذا من جنس دعاوى الفلاسفة في خصوص المقصود من النبوة والرسالة، كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: «وممَّا يبيِّن فساد قولهم (أي: الفلاسفة) أنهم يزعمون أن المقصودَ بالرسالة إنما هو إقامة عدل الدنيا». (الصفدية 2/238).

والحمد لله رب العالمين

كتبه

أبو أويس رشيد بن أحمد الإدريسي الحسني

18 ربيع الآخر 1441هـ / 15 ديسمبر 2019م

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©
تنفيذ مؤسسة المفهرس لتقنية المعلومات