بل التفسير السياسي للإسلام قنطرة العلمانية
ردٌّ على الدكتور حاكم المطيري
بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور عبد العزيز بن محمد السعيد
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد بن عبد الله وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فقد كانت مشاركة معالي الدكتور توفيق السديري ـ نائب وزير الشؤون الإسلامية ـ وفقه الله في الندوة العلمية التي أقيمت في جامعة الملك سعود بتاريخ 18/5/1438، في نقد التفسير المصلحي السياسي للدين؛ في غاية الصراحة والوضوح، وتكلَّم بالحقِّ، وأظهر الحقيقة، ونبَّه على سبب خطير من أسباب الانحراف في الخطاب الحركي لجماعات ما يسمى بالإسلام السياسي المعاصر، فجزاه الله خيرًا، وبارك في جهوده.
وقد كتب الدكتور حاكم المطيري هداه الله مقالا بعنوان: (الخطاب الديني السعودي والتحوّل العقدي) جنى فيه على معالي الدكتور توفيق ( بل على المملكة بحكامها وعلمائها كما يدل عليه عنوان المقال ومضمونه) وحاول فيه لبس الحق بالباطل؛ فذكر من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما هو خارج عن مراد الندوة، ومما لا يخطر على بال الغبي؛ ليوهم القارئ أن ما قرره الدكتور توفيق ـ على حدّ زعم الكاتب ( هو العلمانية ذاتها التي فرضها الغرب على العالم الإسلامي منذ سقوط الخلافة حتى اليوم!)، ثم أعاد ليؤكد هذه الفرية بقوله: (فهل يخفى مثل هذا الأصل العظيم من أصول الدين على نائب وزير الأوقاف السعودي ـ لتحمله ضغائنه السياسية على الجماعات الإسلامية ـ على نفي النظام السياسي في الإسلام الذي أقامه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده، وليروج للعلمانية التي يريد الغرب لها في العالم العربي والإسلامي أن تقصي الإسلام عن واقع الأمة السياسي...) وذكر ـ أيضا ـ أنه ( إعادة إنتاج لما كتبه علي عبد الرازق بحذافيره في كتابه عن الإسلام ونظام الحكم) الذي سحب الأزهر ـ بسبب ما فيه من الضلالات ـ الدرجة العلمية التي كان قد منحها إياه.
وردّاً على هذا أقول:
أولا: لم يقدِّم الدكتور المطيري أي دليل من كلام الدكتور توفيق ما يُثبت به هذه التهمة الكفرية الشنيعة التي رماه بها، وهي (العلمانية ونفي النظام السياسي في الإسلام)، وكأنَّ ما اتَّهمه به أمرٌ مسلَّم لا يحتاج إلى برهان، والحقيقة أنه لا يسلّم لمثل هذا الكلام إلا جاهل؛ لمخالفته أصول الشريعة القاضية بالتثبت في الأخبار، ولكن الكاتب أرسل الكلام دون أن يذكر من كلام الدكتور توفيق ما يستشهد به على هذه الفرية؛ ليفسر الكلام على ما يريد، وليوهم القارئ فيعطيه صورة أخرى غير الواقعية؛ ولأنه لو ذكر الكلام كما قيل في الندوة لانكشف للقارئ الغطاء عن هذه الجماعات المنحرفة وبان له ضلالها عن الحق؛ فأراد الدكتور حاكم صدّ الناس عن هذه الحقيقة بتأويله بل بتحريفه لكلام الدكتورتوفيق.
ثانيا: الدكتور توفيق لم يتطرق إلى مسألة تحكيم الشريعة في السياسة والدولة والمجتمع، لأنها ليست موضوع بحثه، ولا هي موضع خلاف والتباس، خاصةً أنه في منصب رسميٍّ في دولةٍ تحكّم شرع الله تعالى، وليس لها دستور إلا القرآن والسنة، وليس في محاكمها قوانين وضعية، وما يزال ولاة الأمر فيها يؤكدون على هذا المبدأ، ويعضُّون على هذا الأصل الذي قامت عليه الدولة بالنواجذ رغم كل التحديات والصعوبات. أما العلماء في هذه البلاد؛ فلهم آثار حميدة، وجهود مشكورة، ومؤلفات منشورة، في بيان وجوب تحكيم الشريعة ـ رحم الله أمواتهم وحفظ أحياءهم على التوحيد والسنة ـ وخلاصة اعتقادهم فيها ـ وهو اعتقاد كل مسلم صحيح الإسلام ـ أن تحكيم شرع الله في جميع شؤون الدولة والمجتمع والأفراد فريضة محكمة، يطبقه المسلمُ طاعةً لأمر الله تعالى، وتعبدًا له وتقربًا، واعتقادًا بأن حكم الله هو الأحق والأصلح والأحسن والأعدل والأحكم والأكمل، وتضييعه إما كفرٌ وإما ظلمٌ وإما فسقٌ؛ حسب التفصيل المقرَّر في كتب أهل العلم قديمًا وحديثًا.
ثالثا: موضع الخلاف إنما هو في جعل تلك الأحكام الشرعية المتعلقة بالحكم والسياسة غايةَ الدين ومقصده ابتداءً وأصالةً، والزعم بأن أركان الإسلام الصلاة والزكاة والصيام والحج ـ مجرَّد وسائل غير مقصودة لذاتها، وادعاء أنها مجرد (دورات تدريبية وتمارين رياضية) للوصول للغاية المقصودة من الدين والعبادة، وهي عمارة الأرض وإصلاح المجتمع وإقامة عدل الدنيا وسيادتها، كما صرَّح بهذا كثيرٌ من أقطاب هذه الجماعات ورموزها، ولو لا خشية الإطالة لنقلت من كلامهم ما يشهد لهذا، ولكن أحيل القارئ إلى كتاب: (التفسير السياسي للدين) لوحيد الدين خان، و(التفسير السياسي للإسلام) لأبي الحسن الندوي، دراسة وتقديم أخينا فضيلة الشيخ عبد الحق التركماني، وكذا كتاب (مقدمة في تفسير الإسلام) لفضيلته.
وإذا أراد القارئ أن يعرف صدق ذلك من واقع هذه الجماعات فليعتبر بأربعة أشياء:
1ـ جعلهم التوحيد والسنة قضية هامشية لا ينبني عليها ولاء ولا براء، وإنما الولاء والبراء معقود على فكرة الجماعة؛ ولهذا لا ينكرون شرك القبور، ولا ينكرون البدع والمحدثات، بل من رموزهم من يعتقد في القبور اعتقاد أبي جهل وأبي لهب في الأصنام، ويدافع عن أرباب وحدة الوجود، وأما البدع فكثير منهم منغمس فيها، ناهيك عن السخرية بالسنة وأهلها، والدفاع عمن يقدح في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويطعن في الصحابة الأخيار، وتقديم العقل والرأي على الكتاب والسنة، ومن قرأ كتابات البنا وقطب والمودودي والغزالي والقرضاوي والسويدان والراشد والغنوشي وأضرابهم عرف هذا.
2ـ تصريح هذه الجماعات بأنها تريد حكما جاهليا وليس حكما شرعيا ( وهو النظام السياسي القائم على التشريعات البرلمانية لا على القرآن والسنة) وهو ما يعبرون عنه بسيادة الأمة، وقد بيّنت ذلك في كتابي ( إبطال نظرية سيادة الأمة)، ولا أدلّ على ذلك من أن جماعة ( الإخوان المسلمون) لما حكمت مصر قام محمد مرسي خطيبا في الناس بعد فوزه بالرئاسة وقال كلمة لم يتجاسر كثير من العلمانيين على قولها ( لا أحد فوق الشعب)!! فأين الله يا من يعظّم ربه؟! وأين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يا من يؤمن به؟! فضلا عن إنكار أن تكون الحدود ( حدّ الزنا والسرقة والقذف والحرابة وشرب المسكر..) من الشريعة؟
3ـ تحريف الأدلة الشرعية بما يوافق متطلبات الحزب وليس ما يريده الله تعالى، وأقرب شاهد على ذلك أن كثيرا منهم كان يقول بكفر الأنظمة الحاكمة في بلدانهم لأنها لا تحكم بما أنزل الله، ويردّ على شبهات العلمانيين حول تطبيق الشريعة، فلما تقلّدت أحزابهم الحكم محل تلك الأنظمة، صار الحكم بغير ما أنزل الله سائغا، والنظام الديمقراطي الكافر عدلا وحقا بل فريضة متعيّنة، والمعترض على ذلك عدو للإسلام، ومن منافقي الأمة، واتخذوا من شبهات العلمانيين حججا لهم، ومفسرة للقرآن والسنة، وصارفة للأدلة عن حقائقها، فكانوا بهذا معطلين للشرع، محرفين لأدلته، مغرّرين بالمسلمين! فأي علمنة أسوأ من هذه!؟
4ـ أن تطبيق الشريعة الذي تنادي به كثير من جماعات ما يسمى بالإسلام السياسي ليس على ما يفهمه كثير من عامة المسلمين الذي يسيرون في ركابهم، يظنون أنهم يريدون تطبيق الوارد في الكتاب والسنة من أحكام وحدود، بل مرادهم أن ما أقرّه المجلس المنتخب بالأغلبية من تشريعات فهو شرع الله، وإن خالف القرآن والسنة صراحة، ويستشهدون على ذلك بشبه العلمانيين، وقد بيّنت بطلان هذه الشبه في كتابي( إبطال نظرية سيادة الأمة).
فإذا اعتبر المسلم هذه الأشياء عرف أن ما يظهرونه من التدين فهو مصطنع، وما يزعمون أنه دين الله فليس كذلك، وأن لهم ظاهرا وباطنا، وأنهم يرفعون شعار الإسلام لتحقيق مآربهم الدنيوية.كفى الله المسلمين شرهم وضلالهم،
رابعا: إذا عرفت أيها القارئ الكريم ما تقدم، وسمعت ما قاله الدكتور توفيق، تبيّن لك سوء فهم الدكتور حاكم، أو جنايته وفجوره في الخصومة؛ فإن الدكتور توفيقا لم يقل بمقالة العلمانيين ـ أعاذنا الله وإياه منها ـ وليس في كلامه لا تصريحا ولا إشارة ما يدل على هذا، ولكنه أراد بالتفسير السياسي للإسلام اتخاذ التدين المصطنع قنطرة للوصول للسلطة إقامة للدنيا، وجعل العبادات وسيلة لهذه الغاية، كما هو واقع منظري هذه الجماعات، كما تقدم.
خامسا: الواجب على الدكتور حاكم المطيري وأمثاله من المثقفين المهتمين بالفكر والدعوة وواقع المسلمين أن يحدِّدوا موقفهم مما تقدم، فإن كانوا يعتقدون ما تدل عليه هذه الكلمات من عدِّ العبادات المحضة مجرد وسائل غير مقصودة لذاتها؛ فليصرحوا باعتقادهم لها، وليجهروا به، وليعذرونا بعد ذلك إن اتهمناهم أنهم على دين غلاة الفلاسفة كالفارابي وابن سينا، وأن حقيقة قولهم هو الطعن في الوحي والنبوة والرسالة، كما بيَّنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع عديدة من كتبه. وإن كانوا لا يقرون أولئك على تقريرهم بأن العبادة مجرد وسائل ثانوية للعمل للدنيا، وتمنعهم أهواؤهم من التحذير منها؛ فليكفوا عن التشغيب على الناصحين المخلصين الذابّين عن أصل دين الإسلام وحقيقته الكبرى، ولا يبغوا عليهم باتهامهم بالعلمانية، بل الواجب عليهم أن يقروهم، ولو في قلوبهم، وذلك أضعف الإيمان.
سادسا: أن من درس نظرية التفسير السياسي للإسلام، وأدرك حقيقتها، وفهم وجه ارتباطها بمذهب غلاة الفلاسفة المتقدمين من خلال ما شرحه وبيَّنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ يدرك جيِّدًا أن التفسير السياسي للإسلام على النحو الذي تقدم إنما هو في حقيقته قنطرة إلى العلمانية، ذلك أنَّه يجعل الوحي والرسالة والنبوة والعبادة والشريعة مجرد وسيلة للوصول إلى الغاية المقصودة، وهي إقامة عدل الدنيا وسعادة البشرية، ومعلومٌ أن الوسائل لها مكانة ثانوية، وأنه يمكن الاستغناء عنها بغيرها، لهذا قرر أولئك الفلاسفة أنهم يستغنون بفلسفتهم عن شريعة الأنبياء، وقد بات واضحًا بعد الثورات الأخيرة، ودخول الإسلاميين الحركيين ميدان السياسة في بعض البلاد؛ أنهم بدؤوا يقتربون من هذه الفكرة، ويصرحون بقبولهم بالديمقراطية، بل بالعلمانية، وصاروا يقسمون العلمانية إلى علمانية معتدلة، وعلمانية متطرفة، ليقربوا أتباعهم من الأولى ويحسنوا صورتها في أذهانهم، وصرَّح بعضهم من على منبر الجمعة بأن المقصود من الشريعة العدل، والعدل يمكن أن يتحقق بأي شريعة كانت، فبأي دستور وقانون تحقق العدل؛ فقد تحقق مراد الله ومقصود الشريعة. والدكتور حاكم المطيري ليس في سلامة من هذا الانحراف، لأنه هو أيضًا محكوم في فهمه للدين بالتفسير السياسي للإسلام؛ لهذا طعن في دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ورماها بالفشل لأنها لم تستفد من الحركات العصرية كالثورة الفرنسية، فهو معجب بها أشد الإعجاب بخلاف دعوة الإمام الإصلاحية التجديدية، كما أنه معجب بالثورة الخمينية، وإن كانت رافضية طائفية حاقدة، المهم أنها حققت، أو سعت في تحقيق غاية الدين، وهي إقامة الدولة! في انحرافات أخرى له نبَّه عليها أخونا فضيلة الشيخ الدكتور حمد العثمان في كتابه: (الغوغائية هي الطوفان) ردًّا على كتاب حاكم المطيري: (الحرية أو الطوفان)، هكذا سمَّاه، ولم يسمِّه: (الشريعة أو الطوفان)، ثم يجرؤ اليوم على اتهام المعروفين بالاستقامة على التوحيد والسنة والشريعة بتقرير العلمانية والدعوة إليها. فأنصحه بالتوبة إلى الله تعالى، ولزوم منهاج السنة والجماعة، وإن كان طالبًا للحكم فليصرح بذلك، ولا يغلفه بغلاف الدين، فيضطره ذلك إلى التحريف والتلبيس والتدليس.
سابعا: إذا كان الدكتور حاكم صادقا فيما قال فليكتب مقالا يورد فيه كلام الدكتور توفيق بنصه ويبيّنه وجه غلطه بالدليل!! ولا أظنه يفعل ذلك؛ لأن كلاً يستطيع أن يقول ويتهم لكن ليس كل من قال أو اتّهم برهن على تهمته وقوله.
وإذا كان صادقا في دفاعه عن الحق فلم ترك الردّ على أرباب الجماعات ورؤوس الضلال ممن يزعم تقديم الحرية على الدين، وينادي بتطبيق ( الديمقراطية) وهي في حقيقتها علمانية صرفة؟!
وفي الختام: ليس هذا المقال دفاعا عن شخص الدكتور توفيق ـ وإن كان حريا بذلك لفضله وقدره ـ ولكنه دفاع عن الفكرة التي صرح بها، وفيها بيان للحق، وردّ للباطل.
أسأل الله تعالى أن يهدي ضالَّ المسلمين، ويقي البلاد والعباد شرهم وشرَّ الكفَّار والمنافقين، إنه سميع الدعاء، والحمد لله رب العالمين.
كتبه/ عبد العزيز بن محمد السعيد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
25/ 5/ 1438هـ