فتنةٌ ولا أبا الحسن لها! (3)


يبدو أنني تعجَّلت بنشر الحلقتين السابقتين من هذه السلسلة دون أن أقدِّم بين يديها بمقدمة تشرح مقاصدها وأهميتها، فلتكن هذه الحلقة بمثابة المقدمة المتأخرة، وفي بعض التأخير خيرة إن شاء الله تعالى.

كانت بوادر التفسير الجديد للإسلام بدعوة: محمد بن صفدر الأسد آبادي الإيراني المشهور بجمال الدين الأفغاني، وجدَّد دعوته بقالب آخر الشيخ حسن البنا، وسار المودودي وسيد قطب على نفس النهج، فنشأ ما يسمى بالفكر الإسلامي أو الحركي، أو الحركة الإسلامية، أو التيار الإسلامي، أو الصحوة، أو الجماعات الإسلامية، أسماء مختلفة لحقيقة واتجاه ديني ودعوي وفكري واحد.

تتمثل أخطاء وأخطار الفكر الحركي في أمرين كليين:

الأمر الأول: الأخطاء والانحرافات والضلالات التفصيلية في الاعتقاد أو العمل والسلوك.

وقد تصدَّى علماء أهل السنة لها بالبيان والنصح والتحذير والردِّ والنقض، فقاموا بواجبهم أعظم قيام.

الأمر الثاني: الاعتقاد أو الفكر ـ وإن شئت فقل: الدين ـ الجديد الذي تأسس بأصول ونظريات الفكر الحركي، وذلك من خلال نظره إلى الغاية من الدين والهدف من التشريع وحقيقة ما كلفنا الله تعالى به من العبادة؛ فزعم أن الله خلقنا لإعمار الأرض وإقامة الدولة والمجتمع الفاضل، وأن كل ما شرعه من العبادات ـ مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج ـ هي وسائل تدريبية لتحقيق ما خلقنا الله من أجله، فليست هي مقصودة بذاتها.

لقد كان المسلمون على مدى عصورهم المختلفة، وباختلاف فرقهم ـ عدا الفرق الغالية والباطنية ـ؛ يتفقون في الاعتقاد بأن الغاية من الدين هو تحقيق العبودية لله الواحد الأحد والعمل للآخرة، وأن الصلاة والزكاة والصيام والحج وقراءة القرآن والذكر والدعاء وغيرها من العبادات يقصد بها التذلل والتعبد لله تعالى، فهي غايات ومقاصد شريفة، وليست مجرد وسائل وأسباب يقصد بها غيرها، وأن كل ما جاءت به الشريعة من إصلاح الفرد والمجتمع وإعمار الأرض؛ فهو من واجبات ومكملات وثمار ونتائج إقامة العبودية لله عز وجل، فهي ليست مقصودة لذاتها، وهي ـ وإن كان المشروع منها من الدين ـ لكنها ليست من لُبِّ الدين وغاياته ومقاصده السامية.

وهذا الأمر الثاني يمثِّل حقيقة الفكر الحركي، وأثره بالغٌ وخطيرٌ في كل من يحملون الفكر الحركي أو تأثروا به، مع أنَّ أكثرهم لا يتصوَّره بهذا التفصيل، ولا يعتقده بهذا الوضوح، لكن يظهر أثر الفكر في طريقة تفكيره، ونظرته إلى العبادات، وفيما يسيطر على همِّه وإرادته، بغضِّ النظر عن اتجاهه الحركي؛ فيصدر عن هذه النظرية: التكفيري والقطبي والسروري والبنائي والليبرالي والبرلماني والتحريري.

لم يتصدَّى أحد من العلماء وطلبة العلم ـ الذين جاهدوا جهادًا مباركًا في مواجهة الفكر الحركي فيما يتعلق بالأمر الأول ـ لأصل الفكر الحركي وتفسيره الجديد للدين، ولذلك أسباب معقولة:

أولها: أن التفسير الجديد يرتبط بالفلسفة والفكر الغربي، وليس عند أولئك الفضلاء كبير اهتمام به.

وثانيها: غموض هذه النظرية، وتوسل الحركيين إلى طرحها بالتدريج، وفي قوالب دينية مقبولة؛ مثل أهمية التشريع والحكم بما أنزل الله،..

لهذا فإني لا أعلم ـ في حدود إطلاعي ـ من وُفِّق إلى فضح هذا التفسير الجديد للدين ببيان أصوله ومقاصده وخطرها على العقيدة والشريعة الإسلامية إلا اثنان:

الأول: الفيلسوف والمفكر الهندي الكبير وحيد الدين خان (ولد سنة: 1925، وما زال حيًّا، وله محاضرات مباشرة عبر الانترنت)، وهو أول من انتبه إلى هذا الانحراف الخطير، وكان في الجماعة الإسلامية، فاضطر إلى تركها، وانتقل إلى ندوة العلماء وفيها أبو الحسن الندوي، لكنه انسحب منها سريعًا بعد انزعاجه من التقاليد الصوفية والمدرسية للندوة. وألَّف بعض الكتب في نقد التفسير الجديد للدين؛ لكنها لم تحض بالاهتمام والانتشار، ربما لأنه ليست له تلك الشهرة الواسعة، كما أنَّه لا يُعرف بالعلم والدعوة والفضل والتأثير؛ خلافًا للندوي.

الثاني: الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي. ويبدو لي أنه استفاد في هذا من وحيد الدين خان، وازداد شعوره بخطورة التوجه الجديد بعد تلمسه للأثر السيئ له على عبادات وسلوك أتباع الجماعة الإسلامية، فرأى من الواجب الشرعي التحذير منه، فشرح ذلك في محاضرته (1977) التي ذكرتُها في الحلقة الثانية، ثم أفرده بالتأليف بكتاب: (التفسير السياسي للإسلام في مرآة كتابات الأستاذ أبي الأعلى المودودي والشهيد سيد قطب)، وأصدره بالأردية في ديسمبر (1979)، وأعدَّه بالعربية في أكتوبر، وصدر في نفس السنة عن دار آفاق الغد في مصر، وقال في مقدمته:

(كانت مفاجأة حقًّا للمؤلف حين تلقى رسائل حانقة تنبئ عن استياء شديد، ونقد لاذع من عدد من المنتمين إلى الجماعة في الهند على إثر صدور الطبعة الأردية لأنه كان يتوقع منهم أن يكونوا أوسع صدرًا، وأكثر احتمالًا من غيرهم من غلاة المنتسبين إلى جماعات أخرى، وأنهم يميزون بين الخلاف الشخصي الحاقد والاختلاف المبدئي الهادف).

وبمثل ذلك الاستياء والنقد اللاذع قوبلت الطبعة العربية، وتمت محاصرتها وتغييبها، واليوم تجد جميع كتب الندوي في طبعات جديدة فاخرة في المشرق والمغرب؛ إلا هذا الكتاب فهو في حكم المفقود، لولا انتشار صورة عنه في الانترنت قبل نحو عامين، أظنها مأخوذة من مكتبة الإسكندرية.

قبل نحو عشرين سنة وقفتُ على اسم الكتاب في إشارة للندوي في حاشية أحد كتبه، وبدأت رحلة البحث عنه، ولم أتمكن من الحصول عليه إلا في سنة (2002م)، حيث صورت نسخة منه من مكتبة الموسوعة الإسلامية في اسطنبول، وخلال هذه السنوات الطويلة سألت عنه عشرات المبرَّزين من العلماء وطلبة العلم وأساتذة الجامعات في عدد من الأقطار العربية؛ فلم أجد من يعرف الكتاب. وفي العام الماضي، أثناء زيارتي إلى الرياض للمشاركة في مؤتمر نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم؛ استضافني في منزله العلامةُ أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري ـ حفظه الله وجزاه خيرًا على كرمه وحسن أدبه وتواضعه ـ فذكرت له كتاب الندوي؛ فلم يعرفه، ثم شرحتُ له حقيقة التفسير الحركي للدين فتعجَّب جدًّا، وطلب مني نسخة من الكتاب، هذا وأبو عبد الرحمن من أكثر العلماء في عصرنا إطلاعًا وثقافةً ونهمًا في تتبع الكتب ودراسة الأفكار والفلسفات.

وسألت عن الكتاب أيضًا أحد أبرز الدعاة في عصرنا، قضَّى شطر عمره في ميدان الدعوة، وتعرَّف على كثير من العلماء والدعاة والمثقفين من مختلف الاتجاهات، وزار بلادًا كثيرة، ومنها الهند، والتقى بأبي الحسن الندوي، وانتقده في صوفياته؛ ألا وهو الشيخ سعد بن عبد الرحمن الحصين حفظه الله؛ فقال: (مرَّ عليَّ اسمه في بعض الكتب عند ذكر تصوف حسن البنا)، فشرحتُ له أهمية الكتاب فتعجَّب أيضًا، وقال: (لكن الندوي صوفي، يصف ابن عربي بالشيخ الأكبر).

نعم؛ النَّدويُّ صوفيُّ، لكنه صوفيٌّ متديِّن، معظِّم لدين الله وشرعه، وعالم جليل، ومفكر بارع؛ من بابة البارزين في التصوف والفكر والأدب في تاريخنا الإسلامي، كأبي حامد الغزَّالي، لكنه أصحُّ ديانة من الغزَّالي، وأقوم طريقة منه. وقد أحلتُ في نقد صوفيات الندوي إلى كتاب الأستاذ البحاثة الهندي صلاح مقبول؛ فأنصفتُ ونصحتُ.

وليس غرضي من هذه المقالات الثناء المطلق على الندوي، ولا الترويج لأخطائه؛ كما ظنَّ بعض الإخوة الفضلاء فانتقدوني، وبعضهم بالغ في تجريح الندوي فذكر من الأوصاف ما لم يذكره العلماء الذين انتقدوا الندوي بعلم وعدل وإنصاف، وظنَّ آخرون: أنني أحاول أن أثبت بأن الندوي عالم سلفي! والحقيقة أنه لم يكن غرضي لا هذا ولا ذاك، وإنما إظهار ما تميَّز به من كشف حقيقة الفكر الحركي، وبيان خطورته، فألَّف كتابًا يعدُّ ـ بحقٍّ ـ ناقضًا للفكر الحركي، وهادمًا لأصوله، وهو ما آثار غضب الحركيين، وأقضَّ مضاجعهم؛ فعمدوا إلى محاصرته ومصادرته، واكتفى الندوي ـ بحكم طبيعته الصوفية التي تميل إلى الهدوء والمسالمة ـ بإخراج الكتاب في نحو خمس طبعات؛ فقد أدى ما عليه من النصيحة، وبرَّأ ذمته أمام الله تعالى. فالواجب علينا الآن أن نجدِّد نشر كتابه، وننبِّه على أهميته، ونعترف للندوي بالسابقة والفضل، سائلين المولى عز وجل أن يغفر له ويتجاوز عنه ويرحمه برحمته الواسعة، وله الحمد أولاً وآخرًا.

                       وكتبه لكم:                       

عبد الحق التركماني

بريطانيا: 13/9/1432هـ

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©