يقول الشيخ رحمه الله:
«ومن جهة أخرى، المودودي الذي هو رأس في دعوة الإخوان المسلمين، أو دعوة الجماعة الإسلامية، عُظِّم تعظيماً كبيراً، ولا تكاد تجد له ذامًّا الآن، وهو في الحقيقة عنده من البدع ومن الضلالات، وعنده من المتابعة للفلاسفة ما يوجب علينا الحطَّ من منزلته، والتحذير من مؤلفاته.
وأقتصر الآن على قضية واحدة تناولها المودودي بأسوأ تناول، هذه القضية هي أركان الإسلام العمليَّة؛ الصلاة والزكاة والصيام والحج.
فلننظر كيف تكلم عنها المودودي؟!
وما هي نظرة المودودي لهذه الأركان؟!
في كتاب محمد زكريا الكاندهلوي الْمُسمَّى: «المودودي ما له وما عليه»، ساقَ عبارات المودودي في هذا الصدد، وقبل أن أوردها؛ فإن المودودي يرى أن العبادة الأصلية، والعبادة الكبرى هي إقامة الدولة الإسلامية.
إذا عُلم هذا فإن المودودي يقول ـ فيما نقله عن الكاندهلوي ـ: «هذا هو الغرض الذي من أجله فُرضت الصلاة والصوم والزكاة والحج في الإسلام، وليس معنى تسميتها بالعبادات أنها هي العبادات، بل معناه أنها تُعِدُّ الإنسان للعبادة الأصلية، وهذه ـ يعني الصلاة والصوم والزكاة والحج ـ دورة تدريبية لازمة لها»، أي للعبادة الأصلية.
ويقول أيضًا: «إنكم تظنون أن الوقوف متوجِّهًا إلى القبلة واضعًا اليد اليمنى على اليسرى، والركوع معتمداً على الركبة، والسجود على الأرض، وقراءة الكلمات المعدودة، وهذه الأفعال والحركات هي العبادة في ذاتها، وتظنون أن الصوم من أول رمضان إلى أول شوال، والجوع والعطش من الصباح إلى المساء هو العبادة، وتظنون أن الطواف حول الكعبة عبادة. وبالجملة، فإنكم قد سَمَّيتم ظواهر بعض الأعمال عبادة، وعندما يقوم شخص بأداء هذه الأفعال بأشكالها وصورها تظنون أنه قد عَبَدَ الله، والحق أن العبادة التي خلقكم الله من أجلها والتي أمركم بأدائها هي شيء آخر».
هكذا يقول، حسبنا الله ونعم الوكيل.
ويقول: «لو سألتم عن الصلاة والصيام.. ما هما؟ لكان الجواب: هو أن هذه العبادات فَرَضها الله ـ تعالى ـ، الغرض منها الإعداد للعبادة الكبرى التي يجب العمل بها في حياتكم في كل وقت وحال».
ويقول أيضاً: «إن معنى العبادة الذي يدور في أذهانكم هو غلط من أصله، فإنكم تَعُدُّون الإمساك عن الأكل والشرب من السَّحَر إلى المغرب صوماً، وأن ذلك هو العبادة، ولكنكم لا تعلمون أن الجوع والعطش ليس أصل العبادة، بل هو صورة العبادة».
يقول الشيخ الكاندهلوي بعد أن ساق مثل هذه العبارات: «هذه نماذج قدَّمتُها، ومؤلفات الأستاذ المودودي مليئة بهذا الأسلوب، وإنني لا أحب أن أقول شيئاً في حق الأستاذ المودودي».
ثم قال: «ولكنني أسأل: هل هذا هو مفهوم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بأن هذه العبادات غير مقصودة، وإنما هي وسائل تُعِدُّ الإنسان للعبادة الكبرى، والإ لا فائدة فيها؟ إن الكتاب والسُّنَّة قد أكَّدا على الأركان الخمسة ما لم يُؤكدا على غيرها؛ إذ إن تأكيد الأستاذ المودودي على غير هذه الأركان، بحيث يُقلَّل من أهميتها ويعتبرها غير مقصودة وما سواها مقصود، ويجعلها تابعاً وغيرها أصلاً».
إلى أن يقول: «أما تشعرون أن اعتبار الجزء الخاص مقصداً أساسياً للإسلام أدى ذلك ـ أي أدى اعتبار الجزء الخاص مقصداً أساسياً للإسلام ـ إلى أن أفراد هذه الجماعة ازداد فيهم الحط من مكانة الأركان الإسلامية، وممن يهتمُّون بأدائها».
وهذه الكلمة الأخيرة منه هي والله حقٌّ؛ ولذلك فإذا خَطَبَ أحدنا في التوحيد وأكثر الكلام فيه، قالوا: مالكم تتكلمون في التوحيد، والمسلمون يُذبَّحون يميناً وشمالاً؟! وتراهم دائماً يضربون على أمر حساس وهو الإغراق في الجزئيات، فيذمون المتكلم في مسائل الشرع، لكن لا تراهم أبداً يذمون من أشغلَ كل وقته أو جُلَّ وقته في تتبع الجرائد والمجلات واستماع الأخبار السياسية من هنا وهناك، قاصداً التفقُّه في الواقع.
فهم ـ حقًّا ـ فيهم روح الحط من مكانة الأركان الإسلامية وممن يهتمُّون بأدائها من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
والذي أحب أن أضيفَه إلى كلام الكاندهلوي، أن هذا الفكر الذي أبرزه المودودي ليس وليد الساعة، بل قد حمل لواءه إمام الفلاسفة وصنمهم الأكبر ابن سينا في إشاراته، فإنه يُقرِّر أن العبادات لم تُشرع إلا كوسيلة لإقامة المدنية في الأرض، وقد ردَّ شيخ الإسلام على ذلك.
فكيف يليق بعاقلٍ يزعم أن أصوله أصول أهل السُّنَّة والجماعة أن يجرؤ على أن يُثني على من هذا حاله؟.. كيف يجرؤ على جعله مجدَّداً للدين؟ فيا سبحان الله!!.. ».
من محاضرة «هم العدو فاحذرهم»، وهي منشورة ضمن «مجموع مؤلفات وتحقيقات» الشيخ عبد السلام بن برجس، ضمن: «مجموع المحاضرات فيما يخص الدعوة والدعاة» (ص142ـ145). رابط المقطع:
https://www.youtube.com/watch?v=9UTh_SW1l0A
وقال رحمه الله:
«والحقّ: أنَّ الأمر عندهم لا يقتصر على «الجزئيات» وإنما يتعدّاها إلى «الكليات».
هذا تنزُّلاً معهم، على أنَّ ضابط «الجزئيات» و«الكليات» عندهم، هو ما قرَّرَه بعض علماءِ المعتزلةِ ومن تأثَّر بهم، من أن الأصولَ هي المسائل العلميَّة، والفروع هي المسائل العملية، أو أن الأصولَ هي المسائل القطعية، والفروع هي المسائل الظنية ...
بينما الناظر في سيرهم وأحوالهم، بل بعضِ كتاباتهم: يتبَّين له أنَّ «الكليات» عندهم: مجرَّدُ الخوضِ في الأمور السياسية، والتجميع لإقامة الدولة الإسلامية ـ رافضيَّة كانت أو علمانية!! أو قبوريَّة!! المهم الاسم لا المسمى ـ.
وإذا أردت أن تعرف هذا الحق الذي ذكرتُهُ لك، وهو: أن «الكليات» إذا عارضت غايتهم أهدروها، وصغَّروا من شأنها: فانظر إلى موقفهم المخزي من الدولة الرافضية الخمينيَّة (1).
وانظر إلى محاماتهم عن الدولة القبوريَّة «الشركيَّة» في أفغانستان (2).
وانظر إلى مدحهم الدولة العلمانية «الترابيَّة» في السودان.
أليستْ هذه الأفعال تُلْغِيْ «الكليات» كما أنهم ألْغوا «الجزئيات» فنهوا عن إنكار: حلق اللحى، وإسبال الثياب، والتصوير...؟
إذاً فَلِمَ الاستتار خَلْفَ «الجزئيات» المسكينة، مع أنها هي و«الكليات» في مَصْيَدَةٍ واحدة؟!!
«ومما يؤيد ذلك أنَّ الشيخ المودودي وهو من أكابر القوم يرى ـ وهو من مقتضيات رَبْطِه المنطقي والفلسفيّ ـ أن العبادات الإسلامية «الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والذكر، وتلاوة القرآن» مُقَرَّرَاتٌ تَدْرِيبِيَّةٌ لعبادةٍ أَصْلِيَّةٍ أخرى، وهي: «تأْسِيسُ الحكومةِ الإلَهِيَّة».
ورأيه هذا مأخوذٌ من ملاحدِة الفلاسفة، وقد صرَّح أبو علي ابن سينا في «الإشارات» وغيرُه من الفلاسفة في كتبهم: «أن العباداتِ خادمةٌ للحضارةِ والمدنيَّةِ» (3). اهـ.
ومن هنا قال الشيخ محمد الكاندهلوي في كتابه «المودودي ما له وما عليه» ص: 49: «... أن أفراد هذه الجماعة ازداد فيهم الحط من مكانة الأركان الإسلامية وممن يهتمون بأدائها ...». اهـ.».
«ضرورة الاهتمام بالسنن النبوية» 126-128، ط. دار النوادر القيمة.
ــــــــــ
(1) «وقفات مع كتاب للدعاة فقط» لأخينا الشيخ محمد بن سيف العجمي رحمه الله تعالى ص: 53.
(2) «الطريق إلى الجماعة الأم» لعثمان عبد السلام نوح ص 154 - 155، ط المنار.
(3) من كتاب الشيخ المحدِّث العلاَّمة: محمد الغوندلوي، الذي ردَّ به على المودودي، المسمى بـ: «تنقيد المسائل» بواسطة نقل أخينا الشيخ صلاح مقبول عنه في كتابه: «دعوة شيخ الإسلام وأثرها في الاتجاهات المعاصرة» ص: 136، ط الهند.
وانظر «أبو الأعلى المودودي حياته وفكره العقدي»، لحمد الجمال، ص 300، ط دار المدني.