معنى خلافة الإنسان في الأرض


معنى خلافة الإنسان في الأرض

 

قال الشيخ محمد إبراهيم شقرة (ت: 1438) رحمه الله:

 

كنت على متن طائِرة الخطوط السعودية في رحلتها رقم (265) العائِدة إلى عمان يوم الإثنين 27 شوال 1402هـ حين قدَّم لي أحد أفراد طاقم الطائِرة مجلة (المسلمون) عدد (42)، فجعلتُ أُقلِّب صفحاتها مستعرضًا موضوعاتها لأقرأ بعضها، فوقفتُ عند مقال للأُستاذ سهل محمد القباني بعنوان: «الإسلام لماذا؟». فلفتَ نظري عبارة منه: «لأنه هداية الله لخليفته في الأرض» في بدايته.

ومما جاء في هذا المقال: «ثم إن الله جعل الإنسان خليفته في الأرض، فيتحتم أيضًا أن تكون الهداية مباشرة من الله تعالى إلى خليفته في وصاياها وتكاليفها، لأنه لا معنى لهذه الخلافة إذا كانت الهداية من عند غير الله، والإنسان في مركزه المرموق كخليفة الله في الأرض لا بد أن تكون الهداية مصدرًا مقصودًا لسعادته».

أنا لا اعتراض لي على المعنى الجميل الذي حملته هذه الفقرة، بل اعتراضي على بعض ألفاظها، بل على واحدة منها فقط، وهي: «خليفة الله».

شاعت هذه اللفظة وكثير غيرها مصطلحات مسلَّمة قديمًا وحديثًا حتى أصبحت راسخة في أذهان العامة والخاصة مسلمين وغير مسلمين، مما يجعل الإنسان الذي يعرف الخطأ من الصواب يقف مترددًا في إقرارِ الصواب والتنبيه على الخطأ، لا خشية من الناس بقدر ما هو ظنٌّ يحمله على الظَنِّ في نفسه أن الخطأ فيما يظنه صوابًا، وأنَّ الصواب فيما يظنه خطأً، فيجعل نفسه غرضًا تتناوشه الأقلام التي تنبري في سرعة للرد عليه.

ومجلة (المسلمون) لشيوعها الواسع يجدر بها ـ وهي كذلك إن شاء الله ـ أن تقدِّم الإسلام للناس نقيًّا خالصًا بريئًا من كلِّ شائِبة في عقائده وأحكامه وشرائِعه، ولن يتم لها ذلك إلا إذا هي ردَّت كلَّ ما تقدمه لقرائِها إلى مصدري الوحي: الكتاب والسُّـنَّة، فإذا هي وقعت في خطأ ادَّاركتْه ونبَّهت الأذهان إليه، حفظًا لمادة الإسلام أن تنتقض أو أن تشاب بشائبة، إيذانًا منها أنَّ الحق هو الحق من أينَ أتى، وأن الباطل هو الباطل من أين أتى.

وعليه فإني ـ ومع تقديري للمقالة التي كتبها الأُستاذ سهل ـ أودُّ ـ إبراءً للذمة، وأداءً للأمانة العلمية ـ أن أُبين للقراءِ خطأً شاع وانتشر حتى صار مقبولًا مقطوعًا به، وهو كلمة «الإنسان خليفة الله في الأرض».

وردت كلمة خليفة في القرآن في موضعين، الأول في سورة البقرة آية رقم (30): ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، والثاني في سورة ص آية رقم (26): ﴿يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ﴾، كما ورد جمعٌ لهذه الكلمة على لفظين: خلائِف وخلفاء، الأول: في أربعة مواضع، والثاني: في ثلاثة مواضع([1]).

وأصلُ مادة هذه الكلمة: خَلَفَ، ثلاثي مفتوح العين، والمصدر خِلافة، ومعنى خلَف فلانٌ فلانُا خلافة، أي جاء بعده، قال في «الصحاح»: «يقال: خلف فلانٌ فلانُا إذا كان خليفته، يقال: خلَف في قومه خلافة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾ [الأعراف: 142]، وخلفته أيضًا: جئْت بعده، قال في «القاموس المحيط»: «﴿جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾، أي هذا خَلَفٌ من هذا، أو هذا يأتي خَلْفَ هذا».

وخليفة على وزن فعيلة، وهي بمعنى فاعل (خالِف)، وهذا يستلزم أنَّ الخليفة يقوم عن المخلوف عنه في حال غياب المخلوف عنه بسبب من الأسباب الموجبة لوجود الخليفة، كي يؤدي ما كان يؤديه المخلوف عنه، فاجتماعهما معًا ـ أيْ: الخليفة والمخلوف عنه ـ فيه استحالة، لأن الخلافة لا تكون في حال وجود المخلوف عنه، بل تكون في غيابه لموتٍ أو سفرٍ أو مرضٍ أو نحو ذلك من الأسباب، سواءٌ أكان السبب كليًّا كالموت، أو نسبيًّا كالسفر.

وهذا المعنى للخلافة لا يتحقَّق ـ قطعًا ـ إذا كان متعلقها بين الإنسان وبين الله، لأن الله سبحانه حيٌّ لا يغيب، وصفة الحياة لله دائِمة كذاته، وإذا كان الله سبحانه هذا شأْنه، فهل يكون للخلافة عنه معنى، أو هل يكون هو بحاجة إلى الإنسان الذي يخلقه؟

لو كان الله سبحانه محتاجًا لخليفة يقوم عنه بأمره، وينزل أحكامه نيابة عنه على خلق مثله، لكان مفتقرًا إلى خلقه، وحاشا لله أن يكون كذلك، وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا، وهو سبحانه (الغنيُّ) كما وصف نفسه.

إذن فالعاجز هو من يكون في حاجة لمن يخلفه، وإذا كان هذا لا يصْدُق في حق الله فهو يَصْدُق في حق الإنسان، فيكون الإنسان هو في حاجة لمن يخلفه، سواءً أكان من يخلفه مثله أمْ لم يكن مثله بأن كان فوقه، أما إذا كان دونه فلا يكون خليفة عنه، لأن من دونه لا يكون إلا مما لا يعقـل، ولا يصح عقلًا أن يكون ما لا يعقل خليفة عمَّن يعقل، وإلا لما كان معنًى لتفضيل الإنسان بعقله.

فاتضح مما سبق أنَّ الخليفة إمَّا أن يكون مماثلًا للمخلوف عنه. وإما أن يكون أفضل منه، وأنه لا يكون خليفة لمخلوف عنه من كان دون المخلوف في صفاته.

ولم يعهد عن أحدٍ من السلف الصالح من القرون الثلاثة الأولى أنه كان يقول: إنَّ الإنسان خليفة الله في الأرض، وإن ذلك من قول بعض المتأخرين، فعلينا ـ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ـ: بالأمر العتيق([2]).

ولو كان هناك دليل من كتابٍ أو سُنَّة يصلح للركون إليه لوصلنا علْمٌ عن السلف بذلك، بل إن الذي صحَّ عن رسول الله ﷺ خلاف ذلك، وهو ما جاءَ في الحديث الصحيح الذي كان يدعو به، وعلَّم أصحابه أن يدعوا به في السفر: «اللهم أنت الرفيق في السفر والخليفةُ في الأهل»([3])، فانتفى بهذا الحديث على وجه القطع واليقين أن يكون الله سبحانه ـ وحاشاه ـ  مخلوفًا.

ثم إن كلمة «خليفة» التي جاءت في آية سورة البقرة لا يمكن أن تفيد ذلك المعنى البعيد، إذ لو كان ذلك المعنى المقصود لكانت الإضافة بكلمة «خليفة» لذاته العظيمة، كأن يقول: «إني جاعل لي في الأرض خليفة»، أو يقول: «إني جاعل آدم خليفتي»، ونحو ذلك مما يجعل المعنى البعيد معقولًا، بل أن يكون هو عين المطلوب.

أما وقد قال الله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ فإن المعنى كما قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره»: «أي قومًا يخلف بعضهم قرنًا بعد قرن، وجيلًا بعد جيل، كما قال الله: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ﴾»، وهذا هو الصواب في تفسير خليفة، لا قول من يقول: إن آدم خليفة الله في الأرض مستدلًا بقوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾. وعليه فتكون كلمة خليفة مفردًا أُريد به الجمع.

وذكر صاحب «البحر المحيط» قولًا لطيفًا وهو: «أنَّ الخليفة اسم لكلِّ من انتقل إليه تدبير أهل الأرض والنظر في مصالحهم، كما أن كلَّ من وَليَ الروم قيصر، والفرس كسرى، واليمن تبَّع، وفي المستخلف فيه آدم قولان: أحدهما: الحكم بالحق والعدل، والثاني: عمارة الأرض؛ يزرع ويحصد ويبني ويجري الأنهار»([4]).

على أن بعض المفسرين ذهبَ إلى أنَّ آدم عليه السلام هو خليفةٌ لخلقٍ سبقوه، وقد أُهلكوا فلم يدركهم، مستدلًا على هذا بقوله تعالى حاكيًا عن ملائِكته: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾، مشيرين بذلك إلى ما كان من أُولئِك الخلْق السابقين لآدم، قال القرطبي: «أي يخلف من كان قبله من الملائكة في الأرض، أو من كان قبله من غير الملائِكة على ما روي»([5])، وقال أيضاً عند تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ﴾: «أي ملَّكناك لتأمُر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، فتخلف من كان قبلك من الأنبياء والأئِمةِ الصالحين»([6]).

وإن قال قائِل: إن الاستخلاف ليس على نحو ما قاله من ذكرهم ابن كثير رحمه الله، بل يراد به: القيام بأمر الله في الأرض وإنفاذ شرائِعه وأحكامه في نفسه وفي غيره. فهذا أيضًا لا يسمى استخلافًا لأن الله سبحانه هو قيوم السماوات والأرض، بيده الأمر كلُّه، إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون، وقيام الإنسان بأمر الله سبحانه وإنفاذ شرائِعه وأحكامه في نفسه وفي غيره في الأرض هو طاعة واستجابة لأمره سبحانه بها: ﴿أَطِيعُواْ الله﴾، والطاعة ليست استخلافًا عن الله سبحانه، بل هي إخبات وطواعية له، وإنفاذ أمره، واجتناب نهيه كما أراد من عباده.

وقد يحتج القائِلون بهذا المعنى للخلافة بقوله سبحانه: ﴿وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: 7] وهو بعيد جدًّا، لأن المعنى: إن تعلق صاحب المال بماله هو تعلق عارض يزول بزوال يد صاحبه عنه بالموت، ليؤول من بعده إلى الوارثين، فيكونون بهذا المال إما أسعد منه، وإما أن تلحقهم شقوة ذلك المال، فيكونون هم ومن كان يملكه ملكًا عارضًا من قبلهم في هذه الشقاوة سواءً إن كان لم يقم بحقه في حياته، أو يزيدون عليه فيها، أوْ يكونون أدنى منه منزلة في هذه الشقاوة.

فهذه الآية أيضًا ليس فيها ما يُغني من الحق شيئًا، والحقُّ أحقُّ أن يُتَّبع، والله يهدي من يشاء سواءَ السبيل.

ولعل في هذا القدر من البيان ما يكفي لإجلاء الريب، وإذهاب الشك، وإحلال اليقين والجزم بالحق الذي هو في الحقيقة ظاهر بنفسه، جليٌّ بذاته، لا يحتاج إلى إدامة النظر، واستنطاق من غَبَر.

 

 الشيخ محمد إبراهيم شقرة (ت 1438) رحمه الله

من كتابه: «تنوير الأفهام إلى بعض مفاهيم الإسلام» ص (177).

 

راجع للمزيد:

عمرو خالد وحكمة الخلق

داعش صنيعة التفسير السياسي للإسلام

الاستخلاف هو عمارة الأرض



([1]) أما الأول فهي في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ ‌خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)﴾ [الأنعام: 165]، وقوله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ ‌خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)﴾ [يونس: 14]، وقوله: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ ‌خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)﴾ [يونس: 73-74]، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ ‌خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)﴾ [فاطر: 39-40]

وأما الثاني فهي في قوله تعالى: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ ‌خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)﴾ [الأعراف: 69-70]، وقوله: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ ‌خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا...﴾ [الأعراف: 74]، وقوله: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ ‌خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)﴾ [النمل: 62-63]

([2]) رواه عبد الرزاق (20465) والدارمي (145) والطبراني (8845) والبيهقي في «المدخل» (387) من طريق أبي قلابة عن ابن ‌مسعود، وله شاهد عند البيهقي في «المدخل» (388).

([3]) أخرجه مسلم برقم (1342) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.

([4]) «البحر المحيط في التفسير» 1/227.

([5]) «الجامع لأحكام القرآن» 1/263.

([6]) «الجامع لأحكام القرآن» 15/188

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©