بين وباء كورونا ووباء التفسير السياسي للإسلام


بقلم: عبد الحق التركماني

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمةً للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أكتبُ هذه الكلماتِ والعالَمُ منشغلٌ بالوباء العظيم الذي سبَّبته الجُرْثومةُ المعروفةُ بـ: «كورونا فَيْروس»، وانتشر في كثير من أرجاء المعمورة، متسببًا في مرض كثيرٍ من الناس، ووفاة أعدادٍ كبيرةٍ منهم، وتعطَّلت الأعمالُ والأسفارُ، ولزم الناس بيوتهم، وأُغلقت المساجد في أكثر البلاد، فلا تقام الجمعة ولا الجماعات، حتى يجعل الله تعالى لعباده فرجًا ومخرجًا.

يقول الأطباء: إن هذه الجرثومة تنتشر بين الناس بالاحتكاك المباشر، فتحصل العدوى بالرذاذ الصادر من الجهاز التنفسي عندما يسْعُلُ المصاب بالجرثومة أو يعْطُسُ، فيدخل شيء من ذلك الرذاذ في جوف الشخص الآخر، إما مباشرةً، أو عن طريق لمسه بأصابعه أو يده موضعًا سقطت عليه تلك الجرثومة، ثم يلمس فمَه أو أنفَه أو عينَيْه، فتدخل تلك الجرثومة جوفَه.

ويقول الأطباء أيضًا: ليس كلُّ من انتقلت تلك الجرثومة إلى جوفه يمرَضُ بها، فقد يكون جسده صحيحًا قويًّا فيقتل تلك الجرثومة أو يمنعها من التأثير في صحته، وفي هذه الحال يكون هذا الإنسان الذي لم تظهر عليه آثار العدوى معديًا لغيره، ثم قد يكون ذلك الغيرُ مثله في الصحة والقوة فلا يمرض، وهكذا قد تدور الجرثومة على عشرة أشخاص، دون أن يصاب واحدٌ منهم، ولا أن يُعرف حملهم لها. وقد يكون جسد المصاب ضعيفًا ضعفًا يسيرًا فيمرض مدَّة ثم يتعافى، وقد يكون ضعيفًا ضعفًا شديدًا فتفتك به الجرثومة ويهلك. ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ.

أما عن أعراض الإصابة؛ فيقول الأطباء: إنها تظهر بعد يومين إلى أربعة عشر يومًا، وهي سُعَالٌ جافٌّ، وحمًّى شديدةٌ، وضيقٌ في التنفس، وشعورٌ بالتعب والإرهاق. تتفاوت شدَّة هذه الأعراض بين المصابين من خفيفةٍ جدًّا إلى حادَّةٍ جدًّا، وذلك حسب قوة الإصابة من جهةٍ، وقوة مناعة الجسم ومقاومته للجرثومة من جهةٍ أخرى، كما أن للقوة النفسية وعادة الإنسان في التعبير عن أمراضه وأوجاعه، ومدى صبره عليها، والتزامه بتوجيهات الطبيب؛ تأثيرًا في هذه الأعراض، وفي الشفاء من المرض، بإذن الله تعالى ومشيئته.

إنَّ مَثَلَ نظرية التفسير السياسي والنفعي للدِّين كمَثَلِ هذه الجرثومة، وهذا الوباءِ العامِّ؛ في العدوى والتأثير والأعراض والآثار.

لقد ظهرت هذه النظرية قديمًا عند غلاة الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام، ثم تجدَّد ظهورها قبل نحو مئةِ سنةٍ، وانتشرت في الأمة المسلمة خلال العقود الأخيرة انتشارًا كبيرًا، وكان حملتُها والمُعْدُونَ بها هم المفكرون والمثقفون والدعاة من الإسلاميين الحركيِّين. أما وسائلُ العدوى بها فكثيرة متنوعة؛ منها المباشرُ بالكتاب والمقال والخطبة والدرس والمحاضن التربوية، ومنها غير المباشر كإعادة كتابة العلوم الشرعية والتاريخية والفكرية وصياغتها وعرضها في ضوء هذه النظرية، وبثِّها في وسائل الإعلام بالقوالب العصرية الجديدة كالمسلسل التلفزيوني والمسرحية وبرامج الحوار، بحيث يكون وجودها فيها مثل وجود الدَّسَمِ في اللَّبن، ليس له موضعٌ محصورٌ، ولا شكلٌ محدَّدٌ، يغيِّرُ الاعتقادات والمفاهيم في مساحة اللاوعي.

أما أحوال المسلمين في الإصابة بها فمختلفة بحسب منازلهم في مراتب العلم والإيمان:

فأما أهل العلم الصحيح بالله تعالى وبدينه ومراده والإيمان المفصَّل الصادق؛ فلم تخترق جرثومة هذه النظرية قلوبَهم وعقولَهم، حرقها نورُ علمهم، وقوَّة يقينهم، فسلموا من هذا المرض، ومن أعراضه في أقوالهم وأعمالهم.

وأما الذين عندهم أصلُ العلم والإيمان، لكن عندهم نقص في مفصَّلِهما، وشيء من مزاحمة العقائد والأفكار المُضْعِفَةُ لقوَّتهما؛ فقد أصيبوا بجرثومة هذه النظرية إصابةً خفيفةً أو متوسطةَ القوَّة، وظهرت عليهم من أعراضها ما يناسب ذلك، فصاروا يردِّدون بعض أقوال أهلها، وإن لم يوافقوهم في أصولها، لعدم معرفتهم بها، وإدراكهم لمقاصدها.

وأما الفقراءُ في العلم بالله تعالى وبرسالته ومراده، والضعفاءُ في الإيمان واليقين؛ فقد وجدت هذه النظرية إلى قلوبهم وعقولهم مسالكَ مشرَعةً، فأصابتها في مقتلٍ، وظهرت عليهم أعراضُها ظهورًا قويًّا، فانحرفوا عن سواء السبيل في العلم والعمل والسلوك والدعوة إلى الله تعالى.

كما أن للمرض من مبتدَئِه حتى منتهاه بالموت درجاتٍ ومراتبَ؛ فكذلك أحوالُ هؤلاء، يتفاوتون في تأثير هذه النظرية فيهم، وفي الأعراض الظاهرة عليهم، وفي طريقة تعبيرهم عنها: فمنهم من قد تلوَّث بأصولها وفروعها، فصار على دين غلاة الفلاسفة والباطنية. ومنهم من تلوَّث بآثار أصولها، وأخذ بفروعها استحسانًا لظاهرها، دون معرفة بأصولها وإدراكٍ لمخاطرها. ومنهم من استحسن شيئًا فأذاعه بين الناس دون علمٍ ولا يقظةٍ، إنما تأثرًا بالدعاية الدعوية والإعلامية لهذه النظرية، الحاضرة بقوَّةٍ في الخطاب الإسلامي المعاصر.

وأهمُّ أعراض الإصابة بهذه الجرثومة ـ على درجاتٍ مختلفةٍ من الضعف والقوَّة ـ:

1- التهوين من شأن العبادات، والنظر إليها بأنها وسائلُ وأسبابٌ، لا مقاصدُ وغاياتٌ.

2- التركيز على جانب المنافع الدنيوية والمكاسب العاجلة للعبادة والتديُّن بالشريعة.

3- تضخيم ما يتعلق بالأحكام السلطانية من أحكام الشريعة، ورفعها إلى منزلة المقاصد الأصلية.

4- النظرة السوداء القاتمة إلى التاريخ الإسلامي بحكَّامه وعلمائه ومصلحيه، والغلو في ذلك على درجات تصل عند بعضهم إلى الحكم على جهود الأنبياء والرُّسل عليهم الصلاة والسلام بالفشل في تحقيق غاية رسالتهم بإحداث الانقلاب السياسيِّ وإقامة الدولة العادلة.

5- النزعة المثالية والخيالية (الطوباوية)، والحلم بالمدينة الفاضلة، والزعم أن «الخلافة» هي السبيل إلى إقامتها.

6- ادعاءُ وظائفَ للدين لا تعلق للدين بها، مثل ادعاء كثير من المنافع الصحية والمادية على إقامة العبادات، وادعاء أن «الإسلام هو الحلُّ» للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية وجميع مشكلات العالم! ولا شكَّ أنَّ هذه الدعاوى ـ خاصَّةً بعد ظهور كذبها بثورات الخراب العربيِّ ـ من أهم مداخل الإلحاد على أبناء المسلمين.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.

* هذا المقال مستلٌّ من مقدمة كتاب (التفسير السياسي للدين في فكر محمد شحرور)

تجدونه على الرابط                

https://www.csiislam.org/img/versions/c05db1422ffd.pdf

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©