الإسلام والمدنية الحديثة


قد تدرك العقول بنفسها حسن الأفعال أو قبحها لأول نظرة، أو بعد تأملٍ وروية، وتتفاوت العقول في إدراك حسن الأفعال وقبحها، حتى إن الفعل الواحد قد يبدو لعقل حسنًا، ولعقل آخر قبيحًا، وقد يكون في بعض الأفعال وجه من الحسن أو القبح لا تجتليه العقول، فتقف تجاهه غافلة عنه، أو مشتبهة في أمره.

ولاختلاف العقول في إدراك حسن الأشياء وقبحها، اختلفت المذاهب، وتعددت الفرق: إلى عبّاد النار، وعبّاد الكواكب، وعبّاد الأحجار، وعبّاد بعض الحيوان، واختلفت الآراء في مظاهر العبادات، وفي القوانين التي تساس بها الرعايا، وفي العادات، هذا يستحسن أمرًا، وهذا يستهجنه.

وعلى فرض أن تكون العقول متفقة أو متقاربة في إدراك الحقائق والمصالح، فهناك قوة في النفس قد تعارض العقل، وتشق عصا طاعته في كثير من الأحيان، وهي الإرادة، فقد يدرك الإنسان حسن شيء، وتأبى إرادته أن تتجه إليه، أو يدرك قبح شيء، وتنصب عليه إرادته، فإن الإرادة؛ قد تنبعث عن علم صحيح، وقد تسوقها أهواء طاغية، أو عادات مستحكمة.

فالناس في حاجة إلى قوة تفيض أشعتها على العقول، فتتقارب في إدراك الحقائق والمصالح، وتوجه الإرادة إلى ما أدرك العقل حسنه، أو تصرفها عما أدرك العقل قُبْحه، وليست هذه القوة سوى: الدين الحق.

فالدين يهدي العقول إلى ما تغفل عنه، أو تقصر عن إدراكه من وجوه الإصلاح، ويروّض الإرادة حتى تساير العقل في اتجاهه السديد.

وللدين مزية أخرى في إصلاح المجتمع، هي أن البراهين القائمة على أنه وضع إلهي، تكسو أوامره مهابة، فتتلقى بالطاعة في السر والعلانية.

ومن مزايا الدين في الإصلاح: أن المؤتمِرَ بأوامره يشعر بأنه يعمل ابتغاء رضا الخالق جلّ شأنه، فهو يرجو الجزاء الأكبر في حياته الأخرى، زيادة على أن عمله الصالح كلبنة في رقي أمته، أو حلقة في نظام حياتها المطمئنة، وذلك الشعور يزيد عزمه على القيام بالأعمال الجليلة شدة، وبحثه على أن يتحرى بأعماله غاية ما يستطيع من الإتقان.

وإذا رأينا في بعض من ينتمون إلى الدين الحق وهنًا في العزم، أو صغرًا في الهمة، أو ضيقًا في العمل، فالدين بريء من تبعة هذه النقائص، وإنما تبعتها على أصحابها خاصة إن كانوا يعلمون، أو على من يوكل إليهم أمر التعليم، حيث لم يقوموا عليه بكفاية وأمانة.

ومن هنا كان تعرُّفُ حقائق الأديان من أحوال المنتمين إليها خطأً مبينًا، وإنما تعرف حقائق الدين من كتابه السماوي، أو حديث المبعوث به، حيث لم يطرأ عليه تغيير أو تحريف.

فما وعد الله به أهل الدين من عزة في الدنيا، أو فوز على الأعداء، إنما هو وعد لمن تلقوا ذلك الدين بإيمان يحملهم على أن يمتثلوا أوامره، ويجتنبوا نواهيه ما استطاعوا، فلا يخالجك ريب في صدق الوعود التي وعد الله بها الموقنين من العزة والسيادة إذا رأيت جماعة أو أمة تنتمي إليه وهي تحت سلطان عدو يذيقها عذاب الهون صباحًا ومساءً، ذلك أن وعد الله حق، وهو موجه إلى من يجيبون داعيه بامتثال أمره في نحو قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]، وباجتناب نهيه في مثل قوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، وقوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113].

وإذا كان الدين الحق هو المنظّم لشؤون الأفراد والجماعات على وجه تقصر عنه النظم البشرية، فمن واجب الحكومات الإسلامية متى أرادت الخير لشعوبها، واستتباب الأمن في أوطانها، والمباهاة بعدل محاكمها، وبطولة جنودها، أن تبذل ما لديها من عناية في نشر تعاليم الإسلام بين سائر الطبقات، وأن تستمد قوانينها من تشريعه الواسع النطاق.

محمد الخضر حسين

«موسوعة الأعمال الكاملة» 5/59. دار النوادر.

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©