الآثار الخطيرة للتفسير النَّفعيِّ والاجتماعي والسياسيِّ للدِّين


1- أنَّ فيه إفسادًا لأصل الدِّين الأكبر، وركنه الأعظم؛ ألا وهو إخلاص العبادة لله تعالى وحده لا شريك له.

2- أنَّ فيه تحريفًا كليًّا لأصل الدين وأساسه بحيثُ لا تبقى للعبادات والمعاملات أيُّ صلةٍ بالغاية التي أرادها الله تعالى من عباده، وإن أُدِّيت على وجهٍ صحيحٍ موافقٍ للشريعة.

3- أنَّ فيه تحريفًا لخطاب القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء: 195]، وللسنة النبوية المبيِّنة لمقاصد القرآن وأحكامه علمًا وعملًا وسلوكًا، فهو أقرب ما يكون إلى التفسير الباطنيِّ الذي يفسد دلالات الألفاظ وحقائقها، ويخرجها عن وضعها الشرعيِّ، وفهم السلف الصالح وعلماء الإسلام لها خلال القرون المتعاقبة.

4- أنَّ فيه طعنًا في دعوة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وأعمالهم التي أخبر الله تعالى بها، وسجلها التاريخ، فإنَّها لم تحقِّق ما يزعمه هذا التفسيرُ من الغايات الدنيوية في إقامة العدل وإعمار الأرض.

5- أنَّ فيه تحريفًا للدعوة الإسلامية وأهدافها وغايتها؛ فقد هُمِّشت غايةُ هداية الخلق إلى الدين الحقِّ الذي هو شرط نجاتهم في الآخرة من نار الجحيم وفوزهم بالنعيم المقيم، وأُبرزت - مكانها - الغايات المادية والنفسية والاجتماعية والمدنيَّة والسياسة.

6- أنَّ هذا التحريف قد حوَّل الدعوة الإسلامية من دعوة حقٍّ وهدًى وخيرٍ وصلاحٍ وإحسانٍ؛ إلى دعوة مغالبة على الدنيا، وحرصٍ على مكاسبها، وتعلُّق بماديتها، ممَّا يرسِّخ مفهوم «صراع الحضارات» في أسوإِ صوره وأردئها.

7- أنَّ هذا التفسير يورِث أتباعَه والمتأثرين به ضعفًا شديدًا في العبودية لله تعالى بالمحبة والخوف والرجاء، وفي تصحيح النية، وتحقيق الإخلاص، وتجريد القصد والتوجِّه إليه سبحانه وتعالى. ففيه إخلال بالنية والإخلاص اللذين هما قطب رحى الإيمان، إما في أصله، أو كماله الواجب، أو كماله المستحبِّ؛ بحسب فساد القلب والإرادة بهذا التفسير.

8- أنَّه يورثهم - أيضًا - ضعفًا شديدًا في تعظيم أحكام الكتاب والسنة، واتباعها، والمبادرة إلى تنفيذها على وجه الخضوع والتذلل والتسليم المطلق، لهذا صار من المعالم الواضحة لأصحاب هذا التفسير: قلة العناية بالعلم الشرعي، والتزهيد في السنة النبوية، والتشغيب على الأحكام الشرعية بالتأويل والتحريف، وتتبُّع الرخص، وإحياء الفتاوى الشاذَّة وبثُّها في الأمة، وإيجاد المخارج لأصحاب كبائر الذنوب.

9- التركيز على إقامة النظام السياسي الإسلامي، بعدِّه القضية المركزية في الإسلام، وجعل الغاية من دين الإسلام: إقامة الدولة النموذجية، والمجتمع المثالي.

10- الإخلال بمفهوم «تحكيم الشريعة» بجعل مقصده الأعلى وغايته الكبرى في النظام السياسي، وتهميش وتقزيم مفهوم تحكيم الشريعة بمعناه الشامل للاعتقاد والعبادة والتديُّن الفردي والسلوك الشخصي بجعله من باب الوسائل المقصودة تبعًا لتحقيق النظام الاجتماعي الذي هو - في زعمهم - مقصودٌ أصالةً.

11- أنَّ هذا التفسير هو القنطرة إلى وحدة الأديان وكسر الحواجز بينها، وإلى الدعوة لتقارب أهل الإسلام والسنة مع الفرق الضالة في أصول الدين، إذ لا يخلو ملَّةٌ ولا نحلَةٌ من محاسن في السلوك والأخلاق، ولا من القيم الاجتماعية والمصلحية؛ فلماذا إذن الاختلافُ على أساس العقيدة وصحة الديانة والعبادة؛ والغايةُ متحقِّقة بمجموع تلك الأديان والفرق؟!

12- أنَّ هذا التفسير هو الباعث على ظاهرة الطعن في بعض الصحابة - كالخليفة الراشد عثمان بن عفان وخير ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم - من قبل الحركيِّين المنتسبين لأهل السنة والجماعة، ذلك لأنهم اعتقدوا بأنَّ أولئك الصحابة لم يحققوا الغاية من الرسالة المحمدية، أو أن بعض مواقفهم واجتهاداتهم حالت - في زعمهم - دون تحقيقها.

13- أنَّه من أعظم أسباب النظرة السيِّئة القاتمة لتاريخ المسلمين، وأعمال المجددين والمصلحين وجهودهم في خدمة العلم والدعوة في العصور المختلفة.

14- أنَّه السبب الأكبر للاستخفاف بعلماء الشريعة الربانيين، والحطِّ من مكانتهم، والزُّهدِ في علمهم ودعوتهم، والسَّعي لصرف عامَّة المسلمين عن الرجوع إليهم والصدور عن رأيهم. ذلك أنَّ أصحاب هذا التفسير يجدون العلماء يسيرون على منهج الأنبياء في العلم والدعوة والإصلاح فيركِّزون في كلِّ ذلك على تصحيح عقائد الناس وعباداتهم بما يحقِّقُ نجاتهم في الآخرة، وهذا خلافُ ما فهمه أولئك من الدِّين بأنه وسيلة لعمارة الأرض، لهذا يرمونهم بالجُبن والضَّعف والجهل بالواقع والخضوع للظَّلَمة والاستسلام للقَدَر!

15- أنَّ أصحاب هذا التفسير لمَّا اعتقدوا بأن الغاية من الدِّين إقامة الدولة وإصلاح النظام السياسيِّ، وعلموا أنَّ تطبيق هذا في الواقع أقرب ما يكون إلى المحال؛ انقسموا إلى فريقين:

الفريق الأول: تبنَّى المنهج الغربي الديمقراطي، وأسبل عليه لباسًا شرعيًّا بالتحريف والتأويل، وقَبِلَ بما يخالف الأحكام الشرعية في مسائل النظام السياسي، وأسَّس أحزابًا زادت صفَّ الأمة تفرقًا، وعَمِلَ بالتقيَّة السياسيَّة والبراغماتية، ومشى على القاعدة الميكافيلية: الغاية تسوِّغ الوسيلة.

الفريق الثاني: أيقن أن لا سبيل إلى بلوغ غايته من خلال اللعبة السياسية؛ فاختار طريق العنف والإرهاب والقتل والتفجير والعمليات الانتحارية، إذ لا معنى للحياة حين تفقد جوهر معناها المتمثِّل في إقامة الخلافة وأُستاذيَّة العالم!

16- لهذا فإن هذا التفسير من أعظم أسباب ظاهرة الغلوِّ في التكفير، ووصف المجتمعات المسلمة بالجاهلية، وإنزال أحكام دار الكفر على بلاد الإسلام. وهذا التكفير في حقيقته تكفير سياسيٌّ لا دينيٌّ، لأنَّ الباعث إليه غياب النظام السياسي المنشود([1]).

17- وأدَّى ذلك إلى التهوين من أمر الشرك في العبادة - الذي هو أعظم الذنوب وأقبح المعاصي وسبب الخلود في النَّار -، فلا تجد للحركيين جهودًا في محاربة مظاهر الشرك المنتشرة في بلاد الإسلام، فجميع جهودهم متَّجهة لقضية «الحاكمية» بالمفهوم السياسي الضيِّق([2]).

18- أنَّ هذا التفسير يربِّي أتباعه على العمل للدنيا، إذ يقرِّرُ أنَّ عمارتها هي الغاية المقصودة من وجود الإنسان فيها، وفي هذا مخالفة لصريح القرآن والسنة في ذمِّ الدُّنيا ومكاسبها المادية، والتزهيد في حطامها، وتحقيرها في أعين أهلها، وأنها دار ابتلاء لا بقاء؛ حتَّى يجمعوا همَّتهم على عمارة الدار الآخرة.

وإنَّ من تلبيس إبليس على من ابتلي بهذا التفسير أنْ يظنَّ أن الاستيلاء على القوى المادية الدنيوية هي الوسيلة للفوز في الآخرة، فيتوَّهم أنَّ غايته الحقيقية هي الفوز في الآخرة، وقد يكون صادقًا مخلصًا في ذلك، لكنَّه يعتقد أنَّ السبيل إلى ذلك هو عمارة الأرض.

وهذا من أدقِّ جوانب الانحراف عند أصحاب هذا التفسير، وقد شرحه وحيد الدين خان فقال: «يخبرنا القرآن والحديث أن الشيء المطلوب هو التعلق بالله والخوف من عذاب النار، فيجب أن نعمل به، وأن ندعو الناس إليه، فقالوا: إن التعلق بالله واليوم الآخر إنما للتربية. وصارا ضمن هذا التفسير بمنزلة تربية الأعضاء، وليس هذا فحسب؛ بل أصبحت القضية الأساسية هي: إقامة الانقلاب في الدنيا. أما الخوف من العذاب واليوم الآخر وغيرها؛ فأصبحت توجههم نحو العمل والهدف إذا قاموا للانقلاب العالمي أو ملكوا زمامه بعد الانقلاب. ليس معنى ذلك أن الجماعة الإسلامية إنما تستهدف الدنيا والنجاح فيها بدل الفوز بالآخرة، إن غايتها الحقيقية هي الفوز في الآخرة، ولكن ما هي السنن المتبعة لنيل هدف الآخرة؟ لقد أخطؤوا في تصورهم لذلك... إنَّ نتيجة هذا التفسير أن يبقى التعلق بالله واليوم الآخر ومثل هذه الأشياء موجودةً ضمن برامج الجماعة، ولكنها لا تأخذ الاعتبار الحقيقي بين أهلها، وهي تتناول كبحثٍ للتربية، ولا تأخذ اعتبارًا حقيقيًّا في أذهان الناس، ومثَلُ الذين تأثروا بهذا التفسير كمثَل وعاءٍ كان في وضع مقلوب أو مائل؛ فمن الظاهر أنك إذا صببتَ فيه الماء، فإنه يسيل عليه، ولا يدخل فيه سوى القليل. إذن ما أقوله عن الخوف من الله، والتفكر في الآخرة؛ هي أمور لا يرفضها هذا الذهن، بل يقرُّها ويستمع إليها راغبًا فيها، ولكن هذه المؤلفات إنما تصوغ الذهن في شكل لا يضع هذه الأشياء في وضعها الصحيح، بل كل ما يقال من هذا القبيل فهو للتربية. ومعلوم أن الدين والفطرة متطابقان تمامًا، فلو زاغت الفطرة لا يدخل الدين في الإنسان صحيحًا، إذ لا تؤثر هذه الأشياء في الفطرة تأثيرًا حقيقيَّا رغم قراءتها والاستماع إليها، ولا تأخذ الاعتبار الحقيقي الذي كان لها»([3]).

19- أنَّ في هذا التفسير إخلالًا بمراتب الأحكام الشرعية ودرجاتها التي حدَّد الشارعُ الحكيم أولويتها ومنزلتها وأهميتها، فأصول الإيمان ستة: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»، وأركان الإسلام خمسة: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إنْ استطعت إليه سبيلًا»، والإيمان: «بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»، والذنوب كبائر وصغائر، كما قال الله تعالى فيها: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]. فهذا التفسير المنحرف قد أطاح بتلك الأصول والأركان عن مكانتها الرفيعة، وقلب ميزان شُعب الإيمان، حيث جعل عمارة الأرض وإقامة العدل وإصلاح أمر الدنيا؛ أجلَّ الأصول، وأهمَّ الأركان، وأعلى الشُّعب، وما دونها فوسائل وأسباب لبلوغه، لهذا عمدوا إلى إنكار تقسيم الأحكام الشرعية إلى «عبادات» و«معاملات»، وزعموا أنَّه تفريقٌ حادثٌ، اخترعه الفقهاء.

الهوامش:

([1]) التكفيرُ الدِّينيُّ ضرورةٌ لازمةٌ لكلِّ دينٍ، وهو في الإسلام تكفير بالحقِّ ببراهينه الشرعية من الكتاب والسنة من غير غلوٍّ ولا بغيٍ ولا عدوان، ولكاتب هذه السطور بحث بعنوان: «التكفير الديني والتكفير السياسي»، يسَّر الله إخراجه بعونه وتوفيقه.

([2]) وقد يهتمُّ بعضُهم بمحاربة الممارسات الشركية والخرافية والبدعيَّة في المجتمع لكونها من أسباب الجهل والتخلف والطبقية.

([3]) «خطأ في التفسير» ص: 10-11

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©
تنفيذ مؤسسة المفهرس لتقنية المعلومات