انتشار التفسير السياسي والنفعي في العالم الإسلامي


إنَّ هذه التقريرات لمن تقدَّم ذكرهم من الإسلاميين هي الأساس الفكري لمئات من الكُتَّاب والمفكِّرين والوعاظ والمثقَّفين الذين يتكلمون عن الإسلام والعبادة والرسالة والشريعة في وسائل الإعلام الحديثة، وقد ظهر أثرها فيهم بجلاء، وبدا واضحًا لكلِّ من يطَّلع على أساليبهم وخطابهم ودعوتهم أنَّهم يفسرون الإسلام تفسيرًا نفعيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، وأنهم يستخدمون أسلوبَ الوعظِ والإرشاد، ويوظفون السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي لترسيخ هذا التفسير الجديد للدِّين. وأكثرهم ليسوا أهل تخصص بالعلم الشرعي، وبعضهم لديه معرفة دينية محدودة، وبعضهم جاهل تمامًا بمسائل العقيدة والشريعة؛ ومع ذلك يؤلفون الكتب ويلقون المحاضرات، ويتكلمون في محاسن الإسلام وفي الإيمانيات والمواعظ ويتصدَّرون في ميدان الدعوة والتوجيه، فإذا أنكرت على أحدهم، أو أنكرت على من يتابعهم، وقلت: كيف يجوز أن يتكلَّم مهندس، أو محاسب، أو لاعب كرة، أو أستاذ في الفيزياء أو الكيمياء، أو مدرِّبٌ إداريٌّ عن الإسلام بهذا التفصيل والبيان؟ ويتصدَّر للدعوة والإصلاح؟ يكون جوابهم: هم لا يتكلَّمون في أحكام الشريعة، ولا يفتون الناس! ثم يأتي من يدافع عنهم ممن ينتسب للعلم فيقول: هذا من محاسن فلانٍ الداعية الشهير أنه إذا سئل عن مسألة فقهية، يقول: أنا لستُ عالـمًا ولا مفتيًا، اسألوا العلماء! والحقيقة أنه يتكلَّم فيما هو أخطر بكثيرٍ من بيان الحكم الشرعيِّ في المسألة المعينة، لأن المسائل الشرعية محددة، وأحكامها واضحة، والخطأ في المسألة الجزئية سيكون في حدود تلك المسألة، ولكن عندما يتكلَّم الداعية في تفسير حقائق الدين والعبادة ومقاصد الشريعة فالأمر خطير جدًّا، لأنه سيؤثر على تصور المسلم ونيَّته وفهمه للدِّين كلِّه.

لقد كتب كثيرٌ من العلماء وطلبة العلم كتبًا ورسائل وأبحاثًا في الردِّ على الإسلاميين الحركيين، تناولوا فيها أخطاءهم وانحرافاتهم في مختلف مسائل الشريعة، علميَّة كانت أم عمليَّة، وقاموا بذلك بالفرض الكفائي في الردِّ على المخالفين للكتاب والسنة، وقدَّموا للأمة مادة علمية زاخرة، لكنِ الملاحظُ أنَّ تلك الردودَ لم تتجاوز إطار المسائل التفصيلية، والقضايا الجزئية - أصليَّةً كانت أم فرعيَّة -، فلم تتناول - فيما علمتُ، والله أعلمُ - القضيةَ الكليَّةَ الجامعة التي بُنيت عليها أصول الفكر الحركيِّ، وهي التفسير السياسي والنفعي للإسلام. ويرجع سبب هذا إلى أن أولئك الأفاضل لم يكونوا على اطلاع على الفلسفات والأفكار الغربية التي هي مَعينُ الفكر الحركيِّ، كما أنَّه لم تكن لديهم عناية بدراسة نتاج ذلك الفكر على وجه التتبع والاستقراء، وإنما استوقفتهم تلك الأخطاء والانحرافات التفصيلية، وهي ظاهرة بينةً، تنادي على نفسها، أما النظريات والأفكار الكليَّة فلا يمكن معرفتها إلا بدراسة متأنية، خاصةً أنَّ أصحابها تفنَّنوا في عرضها بقالب تعظيم الشريعة وإقامة الدين، وتدرَّجوا في بثِّها في أذهان النائشة، ودسوها في موضوعات العقيدة والتفسير والسيرة والدعوة والتاريخ والمواعظ وغيرها كما يُدَسُّ السمُّ في العسل، فنشأت في الأمة أجيال كاملة قد تعشَّقت التفسير السياسي والنفعي للإسلام في عقيدتها وفكرها وذوقها الديني ورؤيتها لحقائق الدين والحياة، فصار أهل العلم والإيمان في حيرة من أمرهم؛ لا يدرون من أين أوتيت تلك الأجيال، ولا كيف انحرفت عقيدتُها، ومسخت فطرتُها؟!

أما النصوص الصريحة الواضحة في تحريف أصل الدين في خطاب الإسلاميين الحركيين؛ فقليلة جدًّا، ولا يكاد أن ينتبه أحدٌ من أهل العلم لخطورتها، مع أنهم ينتبهون لما هو أقلُّ شأنًا منها - مثل الطعن في بعض الصحابة، أو ردِّ بعض الأحاديث الصحيحة، أو تتبع الرُّخص في الفتوى -، وهذه أمورٌ خطيرة أيضًا، لكنها لا تكاد تساوي شيئًا إذا ما ووزنت بالانحراف الأكبر في أصل الدين، فالفرق بين الأمرين مثل الفرق بين الأصول والفروع.

ولنذكر هنا نماذج يسيرة من تلك النصوص الصريحة لبعض الدعاة الذين يسعون إلى إعادة تشكيل عقل المسلم، وترسيخ المفاهيم المادية والنفعية في علاقته بالعبادة والدِّين:

1- قال الشيخ محمد الغزالي (ت: 1416/1996): «والواقع أن العبادات العَينيَّة أو الكفائيَّة؛ وسائلُ لتزكية الفرد ورفعة المجتمع، والمؤمن الحصيف يُقبل على ما يلائمه من هذه وتلك، دون محاولةٍ للفرار من واجب يتعيَّن عليه»([1]).

2- وقال الدكتور محسن عبد الحميد - وهو يتحدث عن أسباب ظاهرة الغلوِّ في التكفير وعلاجها -: «والحق أن الهدف الذي رمى إليه الإسلام عندما جعل الإنسان خليفة في الحياة، وكلَّفه بالتسخير، وفضَّله على كثير من الخلق؛ لم يتحقَّق کاملًا في تاريخ المسلمين. فقد بدأ الاضطهاد والاستلاب المتنوِّعُ للإنسان في ظلِّ الدول والإمارات التي قامت في العالم الإسلامي بعد عصر الخلفاء الراشدين إلى عصرنا الحالي، وسحب من الإنسان المسلم تلك الحرية الإنسانية في إطار الضوابط التي وضعها الإسلام»([2])

3- وقال الداعية عمرو خالد([3]) في تفسير قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]: «والآن ما هو دورك في الأرض كخليفة؟ دورك محصور في مهمتين:

1- عمارة الأرض: تنمية، وتكنولوجيا، علم.

2- إصلاح الأرض: خير وعدل، نبذ الظلم والقسوة، هداية الناس. إظهار الحق: إصلاح.

إنه السرُّ الذي خلق الله البشرية لأجله، مهمَّتين: علم، وإصلاح. فهل تفعل هاتين المهمَّتين؟! يا متعلم، يا أُمِّي، يا عامل، يا بسيط، يا غني، هل تقوم بهذه المهمة؟! إنها مهمتك الأصلية، وتذكَّر: أنك كلما بذلت أكثر؛ كلما ارتفع شأنك أكثر. هذا هو سر خلقك، تصور! قد تقول: هناك آية في القرآن تقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؟! أقول: وإنَّ قمةَ العبادة أن تحقق الذي خلقت لأجله. وأنتَ لم تخلق للصلاة وللصيام فقط، ولكنَّ الناس اعتادت أن تحصر فكرة العبادة بهاتين الفريضتين، لكن أليس العلم عبادة؟ أليس هداية الناس عبادة؟ أليس العمل عبادة؟ أليست الابتسامة في وجه أخيك عبادة؛ كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك؟ هذه هي الخلافة. فلو كان المقصود من «يعبدون»: الصلاة والصوم فقط؛ لوجبت عليك ترك كل أمور الحياة، وتتفرغ ليلًا ونهارًا للصلاة والصوم فقط. وهذا مستحيل. وأنت تعلم أن التناقض في القرآن الكريم محال على ربِّ العالمين. فلو اكتشفتَ ونوَّرت العقول، ونشرت العلم، وحققت الخير وحكمت بين الناس بالعدل، ونبذت الشرَّ، تكون بذلك قد وصلتَ إلى قمة العبادة التي خلقك الله لأجلها. والصلاة والصوم مهمتهما تقوية الروح على أداء هذه الخلافة. فأنت لن تتقوى في الخلافة وتأدية مهماتها إلا إذا صليت حق الصلاة وصمت حق الصوم، لأنهما غذاء الروح، والخلافة أو المهمة التي خُلقتَ لأجلها تستدعي أن تكون قويم الجسد والروح معًا. فكما قلنا: إن الطعام غذاء لجسدك لتتقوى به على الطاعة، كذلك الصلاة والصوم غذاء للروح لتتقوى بهما على أداء حقِّ الخلافة...»([4]).

4- وقال عمرو خالد – أيضًا -: «إنَّ الرسول مرَّ بستٍّ وعشرين محاولة، فشلتْ كلها، ومع ذلك لم ييأس، هل معقول، هل يصح أن نقول: إنَّ النبيَّ مرَّ بمحاولةٍ فشلت؟ نعم، ينفَع، بل بالعكس، حتَّى تعرفَ أن التجربة ـ تجربته صلى الله عيله وسلم ـ تجربة مفيدة للإنسان، ليست تجربة مثالية خارقة»([5]).

5- ويسعى الدكتور محمد راتب النابلسي إلى ترسيخ مفهوم نفعي عن الإسلام من خلال ابتداع تقسيم جديد للعبادات، حيث يزعم أن العبادات على نوعين: «العبادات الشعائرية، والعبادات التعاملية»، ثم يجعل المركزَّية للعبادات التعاملية، ويجعلها شرطًا لقبول العبادات الشعائرية، فيقول: «العبادات في الإسلام شعائرية وتعاملية. فالشعائرية كالصلاة والصيام والحج والزكاة، وهي معلَّلة بمصالح الخَلْق، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وهي أَساس الوازع الدينيِّ. والعبادات التعاملية: هي الصدق والأمانة والعفة والعدل والإنصاف والرحمة وإنجاز الوعد والوفاء بالعهد والتعفف عن المال الحرام. والحقيقة الخطيرة: أنَّ العبادات الشعائرية - ومنها الصلاة والصيام - لا تقبل ولا تصحُّ إلا إذا صحَّت العبادات التعامليَّة»([6]).

6- وقال الدكتور سلمان بن فهد العودة: «شُرعت العباداتُ لصياغة نفوسٍ عالية الروحانية، قادرةٍ على التوقُّف عن العدوان والظلم أيًّا كانت الدوافعُ والمغريات»([7])، وقال: «مهمَّة آدم عمارة الأرض، ولهذا خُلق»([8])، وقال: «الاستخلاف هو عمارة الأرض بحسب نظام الله»([9])، وقال: «التسبيح والذكر هو عون ومدد لإنجاز المهمة والصبر على تبعاتها وتكاليفها ومشقَّاتها»([10])، وقال: «كم من إنسانٍ يأتي إلى الصلاة ويسدُّ طريق مشاةٍ مثلًا، رغم أننا أتينا الصلاة من أجل أن نتدرَّب على الذوق ورعاية حقوق الآخرين»([11]).

الهوامش:

([1]) «مشكلات في طريق الحياة الإسلامية» دار نهضة مصر، 20.

([2])«قواعد التكفير عند أهل السنة والجماعة ، ابن تيمية نموذجًا» له ، دار الفرقان ، عمان : 1429 / 2008، 97. ولابد أن نتذكر هنا كلام الخميني وشريعتي في اتهَّام الرسل بالفشل في تحقيق غاية رسالتهم.

([3])هو الداعية المصري الذي روجت له القنوات الفضائية، وليس بخافي علينا أنه في غاية الجهالة والضلالة، لا يليق أن يذكر في بحث علمي جاد، لكن عذرنا أننا نريد توثيق ما هو منتشر في الواقع الدعوي، وقد ذكر المصنفون في الفرق أشخاصًا مغمورین تافهين من دعاة الضلالة، وكانوا في الشهرة والتأثير دون المذكور بكثير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

([4]) «إني جاعل في الأرض خليفة» لعمرو خالد، دار المعرفة، بيروت: ط: 3/ 1433، ص: 31 وما بعدها في كلام طويل، وهو من برنامجه على قناة اقرأ الفضائية بعنوان: «كنوز»، حلقة: خلافة آدم في الأرض، رمضان: 1425.

([5]) من إحدى حلقات برنامجه عن السيرة النبوية على قناة اقرأ الفضائية.

([6]) من خطبة عيد الفطر للدكتور محمد راتب النابلسي: 1425هـ/2004م، وقال في خطبة الجمعة عن الصيام: 21/9/2007م: «والحقيقة التي ينبغي أن تكون واضحة كالشمس: أن العبادات الشعائرية لا تصح ولا تقبل إلا إذا صحت العبادات التعاملية»، وكرَّر هذا التقسيم، وأكَّد على عدم صحة وقبول العبادات الأصلية المقصودة لذاتها إلا بصحة المعاملة في كثيرٍ من خطبه ومحاضراته ودروسه التي أذيعت في القنوات الفضائية، وهي منشورة أيضًا في موقعه الرسمي على شبكة الانترنت.

ويستدلُّ الدكتور النابلسي على هذا التقسيم والتأصيل الباطل المبتدع بالأحاديث الصحيحة الواردة في عقوبة أصحاب المعاصي والمظالم المتعلقة بحقوق العباد ـ مثل حديث المفلس ـ، وهو استدلال بيِّن البطلان، لا يستقيم إلا على أصل الخوارج في التكفير بالكبيرة، وقد جهل الدكتور أو تجاهل أنَّ العقوبات الواردة في تلك الأحاديث إنما هي وعيدٌ في حقِّ أهل الكبائر الذين لم يخلِّوا بأصل العبودية لله عزَّ وجلَّ، فيعاقبهم الله تعالى على ما ارتكبوه من المعاصي والظلم والفساد، ويكون دخولهم النار على وجه العقوبة لا الخلود، ثم يدخلون الجنَّة خالدين فيها أبدًا، وقد يغفر الله تعالى لهم فلا يعذِّبهم أصلًا، كما قال عز وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. وقد سلف الكلام في مسألة الصلاة ونهيها عن الفحشاء والمنكر، ولتفصيل القول في مناقشة استدلالات النابلسي ونقضها مناسبة أخرى إن شاء الله تعالى.

([7]) تغريدة له على حسابه الرسمي في «تويتر» بتاريخ: 28/12/2012م.

([8]) تغريدة له في «تويتر» بتاريخ: 14/6/2015م.

([9]) تغريدة له في «تويتر» بتاريخ: 8/6/2015م.

([10]) تغريدة له في «تويتر» بتاريخ: 8/6/2015م. وقارن هذا بما سلف نقله عن ابن سينا في منفعة العبادات : 153، فإن كلامهما ينتهيان إلى أصل فلسفي واحد.

([11]) تغريدة له في «تويتر» بتاريخ: 26/1/2016م.

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©
تنفيذ مؤسسة المفهرس لتقنية المعلومات