الخميني وعلي شريعتي ودعوى فشل الرسالة المحمدية؟!


أخبرنا الله تعالى في كتابه عن الغاية التي أرسل رسله صلى الله عليهم وسلم من أجلها، والمهمة التي كلَّفهم بها، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36]، ففي هذه الآية بيان جليٌّ لوظيفة الرُّسل؛ وهي الدعوة إلى توحيد الله تعالى بالعبادة، ونفي الشرك. وبيانٌ لنتيجة دعوتهم؛ فمن الناس من هداه الله تعالى، فوفَّقه لتصديق رسله، والقبول منها، والإيمان بالله، والعمل بطاعته، ففاز وأفلح، ونجا من عذاب الله، وآخرون: حقَّت عليهم الضلالة، فجاروا عن قصد السبيل، فكفروا بالله وكذَّبوا رسله، واتبعوا الطاغوت، فأهلكهم الله بعقابه، وأنزل عليهم بأسَه الذي لا يردُّ عن القوم المجرمين([1]).

وأخبرنا الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه أنَّ هذا مبدأ دعوة الرسل ومنتهاها، وسببها وغايتها، فلم يكلِّفهم الله تعالى إلا بأمر الناس بتوحيده وطاعته، وقد فعلوا ما كلَّفهم الله به، فقامت بدعوتهم حجَّة الله على الناس؛ كما قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 163-165]. 

لهذا: أخبرنا الله تعالى في أكثر من عشرة مواضع من كتابه أن مهمَّة رسله تنتهي بتبليغهم الرسالة على الوجه الأتمِّ، فقال سبحانه عن ثلاثةٍ من رسله صلى الله عليهم وسلم كذَّبهم قومهم: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [يس: 16-17]، وقال: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35]، وقال لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]، وقال له: {وَإِنْ مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40]، وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92]، وقال جلَّ شأنه: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67].

وأخبرنا ربُّنا - أيضًا - أن تبليغ الرسل، وجواب الناس؛ هو غاية ما سيسألهم عنه يوم القيامة، فقال: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109]، وقال سبحانه: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، وقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: «يسأل الله الناس عما أجابوا المرسلين، ويسأل المرسلين عما بلَّغَوا»([2]).

إنَّ القرآن الكريم مليء بقصص الأنبياء، وأخبارهم مع أقوامهم، ونتائج دعوتهم وأعمالهم، على وجه التفصيل والتكرار، ومدار ذلك كلِّه على هذه الأمور الكلية التي ذكرناها، وجماعها:

1- الدعوة إلى التوحيد ونفي الشرك.

2- البلاغ المبين حتى تقام الحجَّة على الخلق.

ولم يخبرنا الله تعالى قطُّ - لا بالنصِّ الصريح، ولا بالإشارة والتلميح - أنَّه بعث رُسله، وأنزل كُتبه؛ لإقامة «الحكومة الإلهية»، أو بناء «المجتمع الفاضل»، أو «عمارة الأرض»، أو تأسيس «المدينة الفاضلة»، أو إرساء «العدالة الاجتماعية»، و«توزيع الثروات»، و«القضاء على الطبقيَّة في المجتمع»، إلى غير ذلك من المفاهيم التي يزعم الفلاسفة والمفكرون الإسلاميون أنها هدف الرسالة وغايتها!

نعم؛ لا شكَّ أنَّ شريعة الله عزَّ وجلَّ كفيلة بإقامة العدل، حتَّى يكون الناس أقرب إلى الحقِّ والخير فيقوموا بالغاية التي خلقهم الله تعالى من أجلها، وهي عبادته، «ولا يتصوَّر شرعٌ فيه صلاحُ الآخرة دون الدُّنيا، فإن الآخرة لا تقوم إلا بأعمال في الدنيا مستلزمة لصلاح الدنيا»([3])؛ فهذا من مقصود الرسالة بالتبعيَّة لا بالأصالة، وهو داخل في كمال الشريعة وشموليتها. ورغم هذا؛ فإنَّ هذه الحياة الدنيا لا يمكن أن يقام فيها العدل المطلق، ولا الحق المطلق، ولا الخير المطلق، ولا «المدينة الفاضلة» بتصورات الفلاسفة المثالية الخيالية، لأنها دار ابتلاء واختبار وامتحان، وأهلها مبتلون بعضهم ببعض بما جعل الله تعالى بينهم من التفاوت في العلم والعمل والقوة والسلطة والمال والجاه، وبما يقع من بعضهم على بعض من الظلم والبغي والفساد، وبما جعل فيها من الأمراض والأوجاع والآلام والنقص والآفات، كلُّ ذلك ابتلاءً منه سبحانه وامتحانًا، كما قال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [تبارك: 1-2]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165]، وقال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20]، وقال: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4]، وقال: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل: 71]، والآيات في هذه المعاني كثيرة، فإقامة المجتمع المثالي أو المدينة الفاضلة في هذه الحياة الدنيا محالٌ، لكن يتحقَّق من ذلك بحسَبِ ما يحقِّق المؤمنون الصالحون منه في أنفسهم ومجتمعهم، ومهما يفعلوا فهم الأقلُّون دائمًا بين الناس كما أخبر الله تعالى. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243]، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187]، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17]، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا } [الإسراء: 89].

أمَّا ما ورد عن الخلافة الراشدة التي سيقيمها المهديُّ على منهاج النبوَّة - وهو في اعتقاد أهل الإسلام والسنة لا وجود له اليوم، وإنما سيولد في العصر الذي سيظهر فيه، وينشأ مثل سائر البشر، ويتميَّز بالعلم والصلاح والتقوى، فيبايعه المسلمون، ويجمع الله تعالى عليه كلمتهم -؛ فذلك من علامات آخر الزمان، ودولته إيذانٌ بتتابع أَمارات السَّاعة الكبرى، مثل ظهور المسيح الدجَّال، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، فلا بدَّ أن يكون الاعتقاد في المهديِّ مقتصرًا على ما جاءت به الأحاديث الصحيحة الصريحة، فجعله تفسيرًا للغاية التي خلق الله تعالى الناس من أجلها، أو تفسيرًا لحقيقة النبوة والرسالة ومقاصدها؛ تكلُّفٌ وغلوٌّ، وقول على الله تعالى بغير علمٍ.

ثم إنَّ العدل المطلق لا يقيمه بين الناس إلا الحَكَمُ العَدْلُ سبحانه يومَ الحساب والجزاء، والخير المطلق محلُّه جنَّة النعيم، وأهلها هم أهل المدينة الفاضلة، الطيِّبة الطَّاهرة، الخالية من الشُّرور والمفاسد والمظالم: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 73-74]، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 47].

إن هذه المفاهيم القرآنية القطعيَّة تقودنا إلى القول بأنَّ جميع الأنبياء والمرسلين صلى الله عليهم وسلم قد بلَّغوا الرسالة، وأدَّوا الأمانة، ونجحوا في مهمَّتهم أتمَّ النجاح، يستوي في ذلك من لم يقبل دعوته أحدٌ، ومن قبل دعوته أُممٌ كثيرة من الناس لأنَّ المعيار القرآني في النجاح هو «البلاغ المبين»، وقد فعلوه، عليهم الصلاة والسلام، وإن كانت نتائج دعوتهم متفاوتة مختلفة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «عرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرُّهيط، والنبيَّ ومعه الرجل والرجلان، والنبيَّ ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى صلى الله عليه وسلم وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرتُ؛ فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك...». ([4]).

إن القول بأنَّ مهمة الرسل هي إقامة الحكومة العادلة والمدينة الفاضلة؛ هو قول غلاة الفلاسفة - كما تقدَّم -، وهو ما عبَّر عنه سيد قطب بالخلافة في الأرض، أما المودودي فقد كان أكثر صراحة ووضوحًا في بيان الغاية من النبوة والرسالة، حيث قال:

«إن الله قد أراد ببَعْثِهم أن يقيم في العالم نظام العدالة الاجتماعية Social Justice على أساس ما أنزله عليهم من البيِّنات، وما أنعم عليهم في كتابه من الميزان، أي: نظام الحياة الإنسانية العادل»([5]).

وقال:

«ولتشييد هذه الحضارة والمدنيَّة في الأرض أرسل الله تعالى رُسُله تترى»([6]).

وقال المودودي أيضًا: «لأجل ذلك؛ ما زالت الغايةُ المنشودةُ من رسالة أنبياء الله عليهم السلام في هذه الدنيا أَنْ يُقيِمُوا فيها الحكومةَ الإسلاميةَ، وينفِّذُوا بها ذلك النِّظامَ الكاملَ للحياة الإنسانيَّة الذي جاؤوا به من عند الله. وهؤلاء كانوا قد يسمحون لأهل الجاهليَّة بأَنْ يبقوا على عقائدهم السابقة، ويتَّبِعوا طرائقَهم الجاهليَّة ما دامتْ آثارُ أعمالهم منحصِرةً في أنفسهم([7])، ولكنَّهم لم يكونوا ليُبيحوا لهم - ولا كان يسعهم ذلك طبعًا - أَنْ تبقَى مقاليدُ السُّلطة والحكم بأيديهم ليديروا شؤون الحياة الإنسانيَّة على قواعد الجاهليَّة، ولذلك قد سعَى كلُّ نبيٍّ وكلُّ رسولٍ لإحداث الانقلاب السياسيِّ حيثما بُعِثَ،..»([8]).

إن من المعلوم بالضرورة عند أهل الإسلام - ومن قبلهم أهل الكتاب - أنَّ أكثر الأنبياء والمرسلين لم يُحدثوا انقلابًا سياسيًّا، ولا أقاموا حكومة، ولا أسسوا دولة، وأن الرسل الذين جمع الله تعالى لهم بين النبوة والملك قلة قليلة نادرة، مثل: داود وابنه: سليمان عليهما السلام. وقد صحَّ أن الله تعالى خيَّر محمد بن عبد الله - وهو خاتم النبيِّين، وإمام المرسلين، صلى الله وسلَّم عليهم أجمعين - بين أن يكون ملِكًا نبيًّا، أو عبدًا رسولًا، فقال صلى الله عليه وسلم: «بل عبدًا رسولًا»([9]).

ومن هنا فإن لازم الدَّعوى بأن الغاية من إرسالهم «الانقلاب السياسي» وإقامة «الحكومة الإسلامية» - كما زعم المودوديُّ -؛ هو أنَّهم أخفقوا في تحقيق غاية بعثتهم، وفشلوا في بلوغ هدف رسالتهم؛ إما لضعفهم وعجزهم، وإما لتقصيرهم وتفريطهم. هذا اللازم لا مفرَّ منه بضرورة العقل، لهذا التزمه المودوديُّ، لكنَّه تلطَّف في العبارة في رمي الرُّسل بهذه النقيصة، فقال في تمام كلامه السابق:

«ولذلك قد سعَى كلُّ نبيٍّ وكلُّ رسولٍ لإحداث الانقلاب السياسيِّ حيثما بُعِثَ؛ فمنهم من اقتصرتْ مساعيه على تمهيدِ السَّبيل، وإعداد العُدَّة، كإبراهيم عليه السلام، ومنهم مَنْ أخَذَ فعلًا في الحركة الانقلابيَّة ولكن انتهتْ رسالتُه قبل أَنْ تقومَ على يديه الحكومةُ الإلهيَّة؛ كعيسى عليه السلام، ومنهم مَنْ بَلَغَ بهذه الحركة منازلَ الفَوْزِ والنَّجاح؛ كموسى عليه السلام، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم»([10]).

هذا اللازم قد التزمه - أيضًا - الخمينيُّ، وكان أكثر جرأةً وصراحةً، فقد ألقى عن نفسه جلباب التقيَّة، وتجرَّأ - وهو في نشوة انتصار ثورته - على ما لم يتجرَّا عليه غيره، فقال بصريح العبارة:

«كلُّ نبيٍّ من الأنبياء إنما جاء لإقامة العدل، وكان هدفُه هو تطبيقه في العالم، لكنَّه لم ينجح، وحتى خاتم الأنبياء (ص) الذي كان قد جاء لإصلاح البشر وتهذيبهم وتطبيق العدالة؛ فإنَّه هو - أيضًا - لم يُوفَّق، وإنَّ من سينجحُ بكلِّ معنى الكلمة، ويطبِّق العدالة في جميع أرجاء العالم: هو المهديُّ المنتظر»([11]).

إذا كانت الغاية من بعثة الأنبياء إقامة العدل، وقد فشلوا جميعًا - كما يزعم الخميني -، ولن ينجح إلا المهدي المنتظر؛ فثبوت الإمامة - وفق المذهب الشيعي - ضرورة عقلية، وإلا للزم الطعن في عدالة الله تعالى وحكمته، وفي تقرير هذا يقول الخميني:

«نحن نعبد إلهًا نعرفُ أن أعماله ترتكز على أساس العقل، ولا يعمل عملًا يخالف العقل، لا إلهًا يبني بناء شامخًا من التألُّه والعدالة والتديُّن ثم يخرِّبه بيده ويعطي الإمارة ليزيد ومعاوية وعثمان، وأمثالهم من المهاجمين، ولا يحدد المطلوب من الناس بعد النبيِّ إلى الأبد، حتى لا يساعد في تأسيس بناء الظلم والجَور»([12]).

لقد أَثار كلامُ الخميني موجةً من الغضب عند كثير من المسلمين، وأصدر العلماء من مختلف البلدان الإسلامية بيانات وفتاوى ضدَّه، وقد أصابوا في ذلك، فقد جاء بمنكرٍ عظيمٍ، لكنَّ المنكر الأعظم في كلامه، والفساد الأخطر في خطابه؛ هو تحريفه لحقيقة دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وادعاؤه أنهم جاؤوا لإصلاح الأرض وإقامة العدل. ثم بنى على هذه المقدمة الفاسدة تلك النتيجة الخبيثة، فلا بدَّ من التنبيه على فساد مقدِّمته، ثم التشنيع عليه في نتيجتها.

هذه المقدمة ونتيجتها نجدهما عند علَم آخر من أعلام الحركة الإسلامية المعاصرة؛ ألا وهو الدكتور علي شريعتي (1933-1977م) الذي يعدُّ ملهم الثورة الخمينية في إيران، وكان الخميني - نفسه - يتابع قراءة كتبه، ويدافع عنه، ويمنع أتباعه من انتقاده([13])، وهو عند الحركيين الإيرانيين بمثابة سيِّد قطب عند الحركيين العرب([14]).

يقول علي شريعتي في جعل الدين وسيلة لا غاية: «هناك مصطلحات مرادفة لـ: (الإسلام)، وأحدها (الشريعة)، وتعني في اللغة (الطريق إلى الماء)، حيث أن النهر يختلف عمقًا عن الضفاف، فيعمد الناس إلى إنشاء سلالم يتاح عبرها للناس الوصول إلى الماء بيُسر، وتعبئة ما يحتاجونه منه([15]).

وهذه الوسيلة يطلق عليها اسم (الشريعة)، والكلمة الأخرى التي تستخدم أيضًا للتعبير اصطلاحًا عن الإسلام (هي الطريقة) و(الدين)، وتعطيان المعنى نفسه. فالدين - إذن -: وسيلة لا هدف. إن من لا هدف له يعتبر طريقه إلى الهدف هدفًا، أما الذي يمتلك هدفًا فلا يعدُّ الطريق إلا وسيلةً لبلوغ ذلك الهدف. وعليه: فالدين في الإسلام وسيلة، وأما الهدف فشيء آخر. غير أن عموم المتدينين - ونحن من بينهم - نتوهَّم أن الدين هو الهدف، وهذان منهجان في التفكير في غاية التفاوت والاختلاف([16]). الشخص الذي يقصر همَّه على الوسيلة لن يكون قادرًا على بلوغ الهدف، أما الذي يلقي ببصره نحو الهدف فسيصبح بمقدوره أن يستفيد من الوسيلة على أحسن وجه. صفوة القول: أن ثمة منهجين في فهم الدين، ففي الإسلام يعدُّ الدِّينُ وسيلةً، وفي باقي الأديان يتَّحد الدِّينُ مع الهدف. وهذا أحد الفروق الأساسية بين إسلام القرن الأول وغيره»([17]).

فإذا كان الدين والشريعة وسيلة لغاية أخرى؛ فما هي تلك الغاية؟! يقول شريعتي في بيانها:

«إنها حركة ثورية لمواجهة وضعٍ اجتماعيٍّ طبقيٍّ فاسدٍ، يسوِّغُ لبعض الطبقات استغلال الطبقات الأخرى، وتهدف هذه الحركة إلى استبدال الوضع القائم بوضع آخر مثالي، وتحقيق هدف محدد للحياة، وهو: تحرير قوم من الأَسْر، وإرشادهم إلى الأرض الموعودة، وتأسيس مجتمع يقوم على دعامة العقيدة والرسالة الاجتماعية الرافضة لعبادة الطاغوت، والقضاء على الطواغيت الذين يبرِّرون شتَّى أنواع العنصرية والتمييز، ومن ثم إقرار مبدأ التوحيد لكي تتجلَّى فيه الوحدة البشرية، والعدالة الاجتماعية»([18]).

هذا «الدين السياسي» الذي يهدف إلى تأسيس مجتمع مثالي وإقامة العدالة الاجتماعي؛ يسمِّيه شريعتي بـ: «الدين التوحيدي»، و«الدين الإبراهيمي»، و«الدين الثوري»، أما الدين الذي لا يسعى للانقلاب السياسي والاجتماعي فهو – عنده -: «الدين التبريري»، و«دين الشرك»([19])، ومنه الإيمان بالقضاء والقدر، حيث يزعم شريعتي: «أن القضاء والقدر بالمعنى الذي نفهمه اليوم هو من مخلَّفات معاوية وإرثٌ منه»([20]).

وهكذا ينتهي شريعتي إلى نفس النتيجة التي انتهى إليها الخميني - وله فضل السبق على الخميني - فيقول:

«نحن نرى أن الواقع الموجود في العالم المحيط بنا يناقض الحقيقة التي نؤمن بها في الإسلام. ماذا نفعل؟! الإسلام يُخلِّصُ الناس، ويحقِّق العدالة والتقدُّم، لكن الإسلام الواقع قد عمل خلافًا لهذا، وتصرَّف على غير هذا الطريق! إن ما نؤمن به نعتبره حقًّا، وهو ضامن لعزَّة البشر ونجاتهم، لكن ما هو موجودٌ: لا هو خلَّصَ البشريةَ، ولا أقام العدل والحرية على الأرض وفي المجتمع الإسلامي. إن حقيقة الإسلام تجعل شعارَها: الوعي والعدالة والخلاص والحرية للناس، وتضمنُها، أما ما هو واقع فهو مضادٌّ للعدالة، ومضادٌّ للعلم والوعي. فكيف نجمع هذين النقيضين معًا؟! ولو فرضنا أننا بشرٌ قد عِشنا خلال كل فترة الأربع مئة وألف سنة لتاريخ الإسلام؛ فإننا نرى أن القرآن لم ينتصر في فترة واحدة من هذه المدَّة، وأن رسول الإسلام لم ينتصر، وأنَّ عليًّا لم ينتصر، وأن بنيه ورفاقه لم ينتصروا، وأن أبا ذرٍّ في نفس العصر الأول قد توفي منفيًّا في الربذة، ودفن فيها على يد أقرب صحابة رسول الله، ونحن المحرومين الذين كنَّا قبل الإسلام ضحايا للظلم والاستغلال والارستقراطية والجهل والفقر، ودخلنا الإسلام أملًا في الحرية والعزة والعدل، تعرَّضنا بعد الإسلام أيضًا للنَّهب، وتعرَّضنا للتعذيب، وبقينا رهنًا للجوع والظلم والتفرقة. بالطبع لا بدَّ وأن يتبادر هذا السؤال إلى الأذهان: هل هُزم الدِّين الذي جاء من أجل نجاة البشرية، وإقامة العدالة العالمية؟! انتهى؟!

هل يمكن القول بأن الله سبحانه وتعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ومع كتاب هو أرقى كتب الوحي وأسماها، وبعثه من أجل نجاة البشرية، وهو نفسه حدَّد خلفاءه من أجل هداية الناس، لكنَّه انصرف في معمعة العمل، وندم على ذلك الهدف الأساسي الذي هو تربية البشرية والعدالة ونجاة الإنسان والقضاء على الشيطان وفعل الشيطان في الأرض، وانتصار الروح الإلهية في الإنسان والعدالة في التاريخ؟!! لا؛ إن الله سبحانه وتعالى لم ينصرف عنَّا، والرسول وأئمة الدين قاموا - كما رأينا - بواجبهم وعملهم، لكن الزور كان متراكمًا؛ فلم يستطيعوا إتمام المسؤولية، واختفوا جميعًا، وكأنَّ الذي حدث لا شيء! أو أن هذا الدين، وهذا الكتاب، وهذا الرسول ربَّما جميعًا ليسوا على حقٍّ! وإلا كيف يصح أن يكونوا مكلفين بهداية الناس، ثم يُهزمون؟!

لا يستطيع مسلم واحد أن يجيب على سؤال واحد من الأسئلة بالإيجاب، فالإسلام هو دين الله، وقد نزل من أجل النجاة، لكننا نرى أنه لم يقدِّم هذه النجاة. إذن فلا محيص من أن أتباع الدِّين الذي يدَّعي خلاص الإنسان وسيادته والجماهير المحرومة، والقضاء على الظلم والجريمة، ويدَّعي إقامة نظام عالميٍّ لصالح الإنسان؛ يعتقدون أن هذه هي الحقيقة، وإن لم تستطع خلال أربع مئة وألف من السنين أن تُلبس شعاراتها رداءَ العمل، لكنه سوف يفعل، وسوف ينتصر قطعًا، وسوف تقام العدالة حتمًا،... ونحن منتظرون مثل هذا اليوم، ومثل هذه الواقعة، ومؤمنون به،... وإن فرَّطت الأمة المستعبدة في هذا الانتظار فسوف تقبل الاستعباد كمصير محتوم لها إلى الأبد، وإن لم تنتظر التغيير فإنَّ ما حدث لحكم عليٍّ، أو ما حدث في كربلاء؛ يعدُّ بالنسبة لها نهاية القصة. ولن يحدث ردُّ فعل آخر في الطبيعة والتاريخ ووجود تاريخ البشر، وهذه العقيدة تخالف الإيمان بالحقيقة، كما تخالف - أيضًا - مصلحة الفرد في المجتمع والإنسان والمسؤول. إن أنواع المظالم والجرائم والجور كلها قصة واحدة، وحادثة لم تتمَّ في تاريخ البشر، وهذه القصة سوف تنتهي لصالح العدالة والحقيقة، ولخسارة الظلم والفساد والدنس. هذه هي عقيدتي»([21]).

إذا كان هذا أثر التفسير السياسي للإسلام في النظر إلى جهود الأنبياء والمرسلين، وتقييم نتيجة دعوتهم وجهادهم؛ فلا عجب - إذن - فيما نجده في أتباع هذا التفسير من الإساءة إلى العلماء والمصلحين، والاستخفاف بجهودهم، ومحاولة تهميش مكانتهم في قيادة الأمة وتوجيهها.  

يقول وحيد الدين خان: إذا غاب هدفُ القرآن الحقيقيُّ - نظريًّا وعمليًّا - فمن الطبيعيِّ أنْ تتأثَّرَ جهودُ العلماء والمصلحين عمليًّا، لقد ورد في الحديث النبويِّ: «إِنَّ اللهَ عزَّ وَجَلَّ يَبْعَثُ لهذه الأُمَّةِ على رأسِ كُلِّ مئَةٍ سنةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لها دِينَهَا»([22])، فبناءً على هذا الحديث الصَّحيح؛ فإنَّه قد مضى في الأُمَّة الإسلاميَّة اثنا عشر مجدِّدًا - على الأقلِّ - ولكن عندما شاهدنا التاريخَ الإسلاميَّ الكاملَ في المرآة السياسيَّة الدِّينية دُهِشْنا أَنَّه لم يولَدْ فيه أحَدٌ يمكن أن يُقال عنه: «مُجدِّدٌ» بمعنى الكلمة، فكيف بالحديث؟ قال الأستاذُ المودوديُّ:

«إِنَّ المجدِّدَ قسمان: مجدِّدٌ جزئيٌّ، ومجدِّدٌ كلِّيٌّ. فالذين جدَّدوا الدِّين إلى هذا الوقت كانوا جميعهم جزئيُّون، ودرجة المجدِّد الكامل شاغرةٌ حتى الآنَ»([23]).

وكتاب الأستاذ المودوديِّ: «تجديد الدين وإحياؤه» - الذي كان يُكتَبُ على صفحته الأولى: «النقدُ النَّظريُّ على صنائع مجدِّدي الأمة» ثم حُذِفَتْ هذه الجملة في الطبعات اللَّاحقة! - يقول: «إِنَّ جميعَ المجدِّدينَ دونَ أيِّ استثناءٍ كانوا جُزْئيِّين»([24]).

إِنَّ الأمرَ لم يَنْتَهِ عند هذا الحدِّ، لقد قال: «إِنَّ نوعيةَ عمل المجدِّد لا يُوحى إليه، فليستْ درجتُه كدرجة النبيِّ، لأَنَّ النبيَّ يُوحى إليه»([25]) - على حدِّ تعبيره -، ولو قبِلْنا هذا التفسيرَ السياسيَّ الانقلابيِّ للدِّين، فلا بُدَّ أَنْ نقبل - والعياذُ بالله - أَنَّ الأنبياءَ فيهم نبيٌّ جزئيٌّ ونبيٌّ كاملٌ، لأَنَّ غالبيةَ الأنبياء لم يَنْجَحُوا في مناطقهم في إقامة الثَّورة السياسيَّة، والأنبياءُ - مع فارقٍ في نوعيَّة المسؤولية - قاموا عمليًّا بنوعيَّة العمل الذي نُشاهِدُه في حياة المجدِّدين الجزئيِّين، وعلى حدِّ تعبيره: «منهم من نَجَحَ في تمهيد الأرض كسيدنا إبراهيم، ومنهم مَنْ نَجَحَ في أَنْ قام بالحركة الانقلابيَّة عمليًّا، ولكن حالَ الموتُ بينه وبين إقامة الحكومةِ كسيدنا عيسى، ومنهم مَنْ أوصَلَها إلى قمَّة النَّجاح كسيدنا موسى ومحمد عليهم السلام»([26]).

فبموجب هذا التَّفسير كان إبراهيمُ نبيًّا جزئيًّا، لأنَّه لم يستطع إقامةَ الحكومة الإلهية!

إِنَّ الانحرافَ البسيطَ عن الحقيقة يؤدِّي إلى فسادٍ كبيرٍ في الدِّين كما لاحَظْنا([27]). إِنَّ هذا كلَّه يمكن أَنْ نقلِبَه تجاوزًا لولا ما يصوِّرُه الأستاذُ عن السياسة والحكومة وما يذكره في كتابه: «تجديد الدِّين وإحياؤه» عن الخارطة الانقلابيَّة للمجدِّد الكامل في المستقبل، والتي لم يتسنَّ حتَّى لموسى ـ عليه السلام ـ أو خاتم النبيِّين القيامَ بها في حياته على أقلِّ تقديرٍ.

إذا كانَ الاعوجاج في عينِ الإنسان فمِنَ البديهيِّ أَنْ يرى الصورةَ معوجَّةً، فإذا درستَ تاريخَ الهند بنظَّارة فلسفة مَاوْ تِسي تُونغ فيبدو لك غاندي عميلًا للبُرْجُوازيَّة، بينما هو البطل الشعبيُّ في مرآة تاريخ الهند([28])! كذلك إذا شاهدتَ التاريخَ الإسلاميَّ في ضوء التَّفسير السياسيِّ، فإنَّه سيبدو لك أنَّه هو يعاني من فراغٍ هائلٍ، وأَنَّ تصوُّر الدِّين لم يكنْ كاملًا، ولم يكن صحيحًا في التاريخ الإسلاميِّ، ولم يأتِ أحدٌ ليقوم بهذا العمل الصَّحيح الكامل. هل يمكن بعد هذا - أيضًا - أَنْ يكون هذا التفسيرُ صحيحًا؟ إذا آمنتَ بهذه النَّظريَّة فلا بُدَّ أَنْ تقولَ بنقصان التاريخ الإسلاميِّ، والأهونُ أَنْ تردَّ هذه النظريةَ لأجل التَّاريخ الإسلاميِّ بدل أَنْ تردَّ التاريخَ لأجل هذه النَّظريَّة أو هذا التفسير([29]).

الهوامش:

([1]) «جامع البيان في تأويل القرآن» لابن جرير الطبري، مؤسسة الرسالة، بيروت: 1420، 17/201.

([2]) «جامع البيان في تأويل القرآن» (14324).

([3]) قاله ابن تيمية كما في «جامع المسائل» تحقيق: محمد عُزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة: 1422، 6/151.

([4]) أخرجه البخاري (5752)، ومسلم (221) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

([5]) «نظرية الإسلام السياسية» للمودودي، دار الفكر، دمشق: 1967م، ص: 40.

([6]) «موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه» تعريب: محمد كاظم سبَّاق، دار الفكر الحديث، لبنان: ط: 2، 1386هـ/1967م، ص: 39.

([7]) ينبغي الوقوف طويلًا عند قول المودوديِّ بأن رسل الله عليهم الصلاة والسلام كانوا قد يسمحون لأهل الجاهليَّة بأَنْ يبقوا على عقائدهم وطرائقهم الجاهليَّة ما دامتْ آثارُ أعمالهم منحصِرةً في أنفسهم، ويوجد له نظيرٌ في كلام كثير من الدعاة الحركيين، ويُفهم منه - بادئ ذي بدءٍ - أنَّ المقصود هو أنَّ الإسلام إذا حكم فإنَّه لن يُكره أحدًا على اعتناق الدِّين الإسلاميِّ، وإنما سيكتفي بإخضاعهم لنظامه السياسيِّ والاجتماعي. وهذا القدْرُ صحيحٌ، ولكنَّ الحركيين يقصدون به معنًى آخر غير ما يفهمه عامَّةُ المسلمين، إنَّهم يقصدون أنَّ الحكم والسلطة هو الغاية العليا والمقصد الأهم للإسلام وليست الهداية الفرديَّة للإنسان، فإذا تحقَّق الحكم والسلطان فلا ضير أن يبقى الكافرون على كُفرهم، وإن كان في ذلك هلاكهم الأبديُّ في الآخرة!

إنَّ هذا المفهوم تحريف جذريٌّ لدعوة الرُّسل عليهم الصلاة والسلام ولدين الإسلام ومقاصده وغاياته، فالهدف الأساس والرئيس من الدعوة هو هداية «الفرد» - من حيثُ كونُه فردًا - حتَّى يكون من النَّاجين يوم القيامة، أما السلطةُ والحكومةُ والمالُ والقوَّةُ والقتالُ فمجرَّد وسائل للوصول إلى ذلك الهدف الأسمى، ولهذا لمَّا أرسلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه إلى قتال يهود خيبر، نبَّهه إلى أنَّ الغاية من القتال ليس الغلبة والقهر، وإنما الهدايةُ الفرديةُ، فقال صلى الله عليه وسلم: «انْفُذْ على رِسْلِكَ حتَّى تنزِلَ بساحَتِهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقِّ الله فيه، فوالله لَأَنْ يهديَ الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من أَنْ يكونَ لك حُمرُ النَّعم». أخرجه البخاريُّ (3009) و(4210)، ومسلم (2406) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.

وهذه الحقيقة جليَّةٌ واضحةٌ في كتاب الله عزَّ وجلَّ، في دعوة الله تعالى لعباده، وفيما أخبر عن دعوة رسله عليهم الصلاة والسلام وأخبارهم مع أقوامهم، وفيما أمر به نبيَّنا الكريم صلى الله عليه وسلم، كلُّ ذلك يدلُّ دلالةً قاطعةً أنَّ الغاية من الدعوة والرسالة: هدايةُ «الفرد» إلى الدِّين الحقِّ في الدنيا بما يكون سببًا لنجاته في الآخرة، وهذه هي الحكمة في قبول «أهل الذمَّة» في الدولة المسلمة، ففي دخولهم في المجتمع الإسلامي، واختلاطهم بالمسلمين مظنَّة هدايتهم، من غير إكراهٍ.

ولنذكر بعض الآيات الكريمة في تجلية هذا الأمر:

قال الله عزَّ وجلَّ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2].

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)} [الأحزاب: 45-48].

وقال سبحانه: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 130].

وقال عزَّ من قائلٍ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 19].

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق: 6-15].

([8]) «موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه»، دار الفكر، ص: 41-42. ومؤسسة الرسالة، بيروت: ط: 4، 1401هـ/1981م، ص: 34-35.

([9]) أخرجه أحمد في «المسند» 2/231 (7160) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([10]) المصدر السابق: «موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه».

([11]) هذا نصُّ كلامه بحروفه من خطابه إلى الشعب الإيراني بمناسبة الخامس عشر من شهر شعبان: 1400، الموافق: 28/6/1980، وبثَّ من الإذاعة والتلفزيون، كما في «مختارات من أحاديث وخطابات الإمام الخميني»، طبع: مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، قسم الشؤون الدولية، طهران، 2/42. وقد أسقط محمد جواد المهري هذه الخطاب من كتابه: «مختارات من أقوال الإمام الخميني» وزارة الإرشاد الإسلامي، طهران: 1402، فلم يذكره في موضعه من المجلد الثاني، حسب تسلسل تاريخ الخطب!

([12]) «كشف الأسرار» للخميني، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، طهران، ص: 116-117.

([13]) راجع مقال محمود دعائي: «لو كان شريعتي حيًّا لكان خير ناصر وساعد للإمام» في مقدمة «الحسين وارث آدم» للدكتور علي شريعتي، دار الأمير، بيروت: 2007م، ص: 31-33.

([14]) وقد تُرجمت كتبه إلى الإنكليزية والفرنسية والعربية والتركية وغيرها، وهي واسعةَ الانتشار والتأثير في الإسلاميين الحركيين في تركيا منذ الثورة الخمينية، ونشرت بعضها دار الزهراء للإعلام العربي في القاهرة، وهي الدار التي تنشر كتب جماعة الإخوان المسلمون، وذكره المنظِّر الإخواني الكبير محمد أحمد الراشد (عبد المنعم صالح العلي العراقي) في «صناعة الحياة» دار الفكر، دمشق: 2004م، ص: 61-65، فأثنى عليه، وأبدى إعجابه به. وقال راشد الغنُّوشي في «الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام» الدار العربية للعلوم، بيروت: 2012م، ص: 231: «ربما نكون تأثَّرنا بالمفكر الإيراني علي شريعتي أكثر مما تأثر به الإيرانيون، بالخصوص بعد الثورة التي همشته لصالح فكر المراجع الرسمية».

([15]) هذا تفسير باطل لمعنى الشريعة في اللغة، فقد قال ابن فارس في «مقاييس اللغة» 3/262: (شرع) الشين والراء والعين أصل واحد، وهو شيء يفتح في امتدادٍ يكون فيه، من ذلك الشريعة، وهي مورد الشاربة الماء. وفي «تاج العروس» للفيروزآبادي (مادة: شرع): «الشريعة: ما شرع الله تعالى لعباده من الدِّين، مشتقٌّ من شاطئ البحر. وأصل الشريعة في كلام العرب: مورد الشاربة التي يشرعها الناس، فيشربون منها ويستقون، وربما شرعوها دوابهم فشرعت تشرب منها، والعرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماء عِدًّا، لا انقطاع له، ويكون ظاهرًا معينًا لا يُستقَى بالرشاء، وإذا كان من السماء والأمطار فهو الكَرَعُ. ويقال: شرعت الدوابُّ في الماء شرعًا، وشروعًا، أي دخلت، فشربت الماء». يتبيَّن بهذا أن الشريعة هي موضع الماء، وإليه يرد الناس لشرب الماء وحمله. فهي الموضع المقصود، وليست طريقًا إلى هدف آخر.

([16]) صدق ـ والله! ـ، فالمنهجان ضدَّان لا يجتمعان، أحدهما: منهج الأنبياء والمرسلين الذي يجعل الوحي والنبوة والرسالة والعبادة والدين والشريعة هي الهدف والغاية والمقصد. والثاني: منهج غلاة الفلاسفة والباطنية والزنادقة الذي يجعل كلَّ تلك الحقائق وسائلَ وأدواتٍ لغاية أخرى ومقصد آخر.

([17]) «معرفة الإسلام»، دار الأمير، بيروت: 2007م، ص: 123-125.

([18]) «دين ضدَّ الدين»، دار الأمير، بيروت: 2007م، ص: 41-42.

([19]) «دين ضدَّ الدين» 42-44. ونشير هنا إلى أن أهمية عقيدة التوحيد ومحاربة الشرك - عند شريعتي - تكمن في كونها وسيلة لمحاربة الطبقية والاستغلال. وهذه الرؤية مبنية على أساس أن الدِّين كلَّه - وأساسُه التوحيد - وسيلةٌ للعدالة الاجتماعية. وهي رؤية موجودة عند كثير من الإسلاميين العرب أيضًا، وسنفردها - إن شاء الله تعالى - ببحث موثَّق لأهميتها.

([20]) «دين ضدَّ الدين» 42.

([21]) «الحسين وارث آدم» ص: 359-365. وكلامه هذا في الدليل العقلي على صحة عقيدتهم في انتظار ظهور المهدي. ونقض ادَّعاه أن هدف الإسلام هو إقامة العدالة والمجتمع المثالي سهل جدًّا، فهذه نصوص القرآن والسنة بين أيدينا، ليس فيها شيء مما نسبه زورًا وبهتانًا إلى الرسالة المحمدية، بل تلك النصوص مصرحة بما لا يقبل التأويل: أن هذه الحياة الدنيا دار ابتلاء وامتحان، كما شرحناه فيما تقدَّم: ؟؟.

([22]) أخرجه أبو داود (4291) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وخرَّجه الألبانيُّ في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (599).

([23]) «موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه» دار الفكر، ص: 57.

([24]) «موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه» ص: 57.

([25]) راجع المصدر السابق، تحت عنوان: (الفرق بين المجدِّد والنبي)، ص: 53.

([26]) المصدر السابق، ص: 42.

([27]) كان من بين ردود الفعل لتصحيح هذا الخطإ أَنَّ أحد الدعاة المتحمسين من هذه الجماعة قد ادّعى: «أنه لا يصحُّ القول أَنَّ الأنبياء لم يقيموا الحكومة الإسلامية، والحقُّ عكس ذلك تمامًا إنَّهم كلهم قد أقاموا الدولة الإسلامية» [مجلة الحياة، يوليو: 1965]، ويستمر صاحب المقال فيقول: «قد يستغرب الناسُ في هذا الكلام، ولكن إذا ذكرنا سنة الله في الرسل فليس ثمةَ أي شبهة في صحة هذه الدعوى»، «ولو كان تاريخ الأنبياء محفوظًا كله لاستطعنا أن نسترشد بأمور دولتهم كنظم الأقاليم المدنية».

وبعبارة أخرى: وإن لم يخبرنا القرآن عن جهود الأنبياء في إقامة الحكومة الإلهية صراحةً وإلى هذه اللحظة هذا أمر مجهول في التاريخ، ولكن مع هذا كلِّه علينا الإيمان بأنهم أقاموا الحكومة الإلهية، وهذا ما يقوله الذوق الديني لصاحب المقال، وهو كاستدلال فريدرك انجلز رفيق ماركس الخاص، الذي يقول: «وإن كنا لا نعرف تاريخيًّا أحوال المجتمع الإنسانيِّ البدائيِّ، ولكن هذا ما تقوله فكرتنا وذوقنا الحياتي والإنساني: أَنَّ المجتمع البدائيَّ كان مجتمعًا شيوعيًّا حتمًا»! (وحيد الدين خان)

([28]) ماوتسي تونغ (ت: 1893-1976م) زعيم الحزب الشيوعي الصيني، وإليه تنسب الشيوعية الماوية التي هي مزيج من شيوعية لينين وماركس، وكان من الطغاة القساة المجرمين، تسبَّبَ في هلاك أكثر من ثلاثين مليون نسمة في مغامرته التي عُرفت بالقفزة الكبرى. وهذا على النقيض من الزعيم الهندي مهاتما غاندي (1869-1948م) الذي قاد حركة استقلال الهند من خلال العصيان المدني الشامل، والالتزام بالمقاومة السلمية أو اللَّاعنف الكامل. أما «البُرجوازيَّة» أو «البورجوازيَّة» فهي طبقة اجتماعية وسطى نشأتْ في عصر النَّهضة الأوربيَّة بين الأغنياء والزُّرّاع، وأصبحتْ دعامة النِّظام النيابيِّ، ثمَّ صارتْ في القرن التَّاسع عشر الطَّبقة التي تمتلك وسائل الإنتاج في النِّظام الرَّأسماليِّ وقابلتْ بهذا طبقة العمَّال. «المعجم الوسيط» 1/47، «معجم اللغة العربية المعاصرة» 1/182.

([29]) «التفسير السياسي للدين» 174-177.

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©
تنفيذ مؤسسة المفهرس لتقنية المعلومات