إن تقريرات المودودي لمفهوم العبادة هي التي أوحت إلى سيِّد قطب بنظرية الحاكمية وتفسير شهادة التوحيد بها، وبناءً عليها قرَّر أنْ لا معنى للإسلام والعلم والدعوة والفتوى ما لم يصل الإسلام إلى سدَّة الحكم ويقيم دولته المنشودة، لهذا استخفَّ بالعلماء والفقهاء، وكفَّر المجتمعات الإسلامية، ودعا إلى تكوين «عصبة مؤمنة» تتربَّى على مبدإ الحاكمية كما عرضها المودوديُّ؛ ثمَّ تنقَضُّ على المجتمع الإسلامي بالثورة والانقلاب فتُقيم حكومة الإسلام ونظامه الاجتماعي، الذي من أجل إقامته خلقَ الله الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأقام سوق الجنَّة والنَّار! فهذا ما يصرِّحُ به سيِّد قطب في كلمة جامعة نقلها عن المودوديِّ: «إِنَّ غاية الجهاد في الإسلام هي هدم بنيان النظم المناقضة لمبادئه، وإقامة حكومةٍ مؤسَّسة على قواعد الإسلام في مكانها، واستبدالها بها. وهذه المهمة - مهمةُ إحداثِ انقلابٍ إسلاميٍّ عامٍّ - غيرُ منحصرة في قطرٍ دون قطرٍ، بل مما يريدُه الإسلامُ، ويضعه نُصب عينيه: أَنْ يحدُث هذا الانقلابُ الشاملُ في جميع أنحاء المعمورة، هذه غايته العليا، ومقصده الأسمى الذي يطمح إليه ببصره»([1]).
إن سيد قطب محكوم في نظرته لجميع حقائق الإسلام بفكرة الانقلاب لإقامة الدولة، ورغم أن كلماته بهذا الخصوص ليست صريحة وصادمة مثل كلمات المودودي؛ إلا أنَّه يغرس نفس الفكرة في ذهن القارئ عند تناوله المفاهيم الأساسية للعقيدة والشريعة:
يقول عند كلامه عن مفهوم الجهاد: إنه القتال «في سبيل الله لتحقيق منهجه، وإقرار شريعته، وإقامة العدل «بين الناس» باسم الله. لا تحت أي عنوان آخر. اعترافًا بأن الله وحده هو الإله ومن ثم فهو الحاكم»([2]). ويقول: «هو جهاد لإقامة مملكة الله في الأرض، ومن ثم ينبغي له أن ينطلق في «الأرض» كلها، لتحرير «الإنسان» كله، بلا تفرقة بين ما هو داخل في حدود الإسلام، وبين ما هو خارج عنها»([3]).
وعند كلامه عن مفهوم العبادة والخلافة في الأرض يجعل «الخلافة» هي المهمة الواسعة التي تستوعب مفهوم العبادة، ويجعل العبادات التي أمر الله بها عباده - ويسميها: إقامة الشعائر - جزءً من ذلك المفهوم، لتصبح «عمارة الأرض» هي الغاية من الخلق والتكليف، حيث يقول - عند قوله تعالى: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56-58] ـ:
«وإن هذا النصَّ الصغير ليحتوي حقيقة ضخمة هائلة، من أضخم الحقائق الكونية التي لا تستقيم حياة البشر في الأرض بدون إدراكها واستيقانها، سواء كانت حياة فرد أم جماعة، أم حياة الإنسانية كلها في جميع أدوارها وأعصارها، وإنه ليفتح جوانب وزوايا متعددة من المعاني والمرامي، تندرج كلها تحت هذه الحقيقة الضخمة، التي تعد حجر الأساس الذي تقوم عليه الحياة.
وأول جانب من جوانب هذه الحقيقة أن هنالك غاية معينة لوجود الجن والإنس، تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده، ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده، وأصبح بلا وظيفة، وباتت حياته فارغة من القصد، خاوية من معناها الأصيل، الذي تستمد منه قيمتها الأولى، وقد انفلت من الناموس الذي خرج به إلى الوجود، وانتهى إلى الضياع المطلق الذي يصيب كل كائن ينفلت من ناموس الوجود، الذي يربطه ويحفظه ويكفل له البقاء. هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بناموس الوجود هي العبادة لله، أو هي العبودية لله. أن يكون هناك عبد وربٌّ: عبد يَعبد، وربٌّ يُعبد. وأن تستقيم حياة العبد كلها على أساس هذا الاعتبار. ومن ثم يبرز الجانب الآخر لتلك الحقيقة الضخمة، ويتبين أن مدلول العبادة لا بدَّ أن يكون أوسع وأشمل من مجرد إقامة الشعائر، فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر والله لا يكلِّفهم هذا، وهو يكلفهم ألوانًا أخرى من النشاط تستغرق معظم حياتهم، وقد لا نعرف نحن ألوان النشاط التي يكلفها الجنُّ، ولكننا نعرف حدود النشاط المطلوب من الإنسان، نعرفها من القرآن من قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]؛ فهي الخلافة في الأرض - إذن - عمل هذا الكائن الإنساني. وهي تقتضي ألوانًا من النشاط الحيوي في عمارة الأرض، والتعرف إلى قواها وطاقاتها، وذخائرها ومكنوناتها، وتحقق إرادة الله في استخدامها وتنميتها وترقية الحياة فيها. كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض لتحقيق المنهج الإلهي الذي يتناسق مع الناموس الكوني العام. ومن ثم يتجلَّى أن معنى العبادة - التي هي غاية الوجود الإنساني أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى - أوسع وأشمل من مجرد الشعائر، وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعًا،... فمن مقتضيات استقرار معنى العبادة أن يقوم بالخلافة في الأرض، وينهض بتكاليفها، ويحقق أقصى ثمراتها»([4]).
ما فهمناه من هذا الكلام - وهو أن سيد قطب يجعل العبادات التي هي أركان الإسلام، وهي صلب الدين ولبِّه في مرتبة ثانوية جزئية من الغاية التي خلق الله الجنَّ والإنس من أجلها وهي: الخلافة وعمارة الأرض - صرَّح به في موضع آخر بعبارة واضحة جلية لا تقبل التأويل فقال:
«إنما أطلقتْ لفظةُ «العبادة» على «الشعائر التعبدية» باعتبارها صورةً من صور الدينونة لله في شأن من الشؤون، صورةً لا تستغرق مدلول «العبادة» بل إنَّها تجيء بالتبعية لا بالأصالة!»([5]).
ثم أكَّد سيد قطب بأن هذا التقرير الصريح هو مراده مما كتبه في مفهوم العبادة في كتبه المختلفة، فقال:
«هذه الحقيقة هي التي قررناها كثيرًا في هذه «الظلال» وفي غيرها، في كلِّ ما وفَّقنا الله لكتابته حول هذا الدِّين وطبيعته ومنهجه الحركيِّ»([6]).
وبناءً على هذا: إذا وُجد لسيد قطب كلام يوافق في ظاهره المفهوم الصحيح للعبادة عند أهل التوحيد والسنة؛ فيجب أن يحمل على هذا المفهوم الخاص عند سيد قطب، ويفسَّر في ضوئه، أعني قوله: «مدلول «الشعائر التعبدية» لا تستغرق مدلول «العبادة» بل إنَّها تجيء بالتبعية لا بالأصالة!»، وقد كرَّر هذه العبارة - بحروفها - في موضعٍ آخر([7]).
وهنا لا يُغفل سيد قطب الإحالة إلى المودوديِّ فيقول: «يُراجع البحث القيِّم الذي كتبه المسلم العظيم الأستاذ السيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان بعنوان: «المصطلحات الأربعة في القرآن: الإله، الرب، الدين، العبادة».»([8]). ولا برهانَ أقوى من هذا على تأثره بالمودودي، وأخذه عنه، وتبنيه لنظريته في تفسير النبوة والدين والعبادة.
إذا كانت الغاية من الخَلْق والدين: الخلافةَ والعمارةَ، والعباداتُ الأصلية - التي هي أركان الإسلام - داخلة في تلك الغاية «تبعًا لا أصالةً»؛ فمن البديهيِّ - إذن - أن تفقد «العبادات» قيمتها الذاتية المستقلة، وتنحطَّ عن منزلتها الرفيعة العالية، فتصبح الدعوة إلى إقامتها عملًا جزئيًّا غير ذي بالٍ، فالتبع لا قيمة له مع غياب المتبوع، والفرع لا قيام له مع سقوط الأصل. لقد التزم سيد قطب هذا اللازم العقلي الضروري فقال: «والواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقَّتْ كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات، وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرَّض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان! إنما الذي استحقَّ كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد، وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمرٍ، وفي كل شأنٍ، وفي منهج حياتهم كلِّه للدنيا والآخرة سواء. إن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد القوامة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونه الشاملة. إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان. لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه، فالله سبحانه غني عن العالمين، ولكن لأن حياة البشر لا تصلح، ولا تستقيم، ولا ترتفع، ولا تصبح حياة لائقة بالإنسان إلا بهذا التوحيد الذي لا حدَّ لتاثيره في الحياة البشرية في كل جانب من جوانبها»([9]).
هذه الرؤية الفلسفية لهدف الدين هي التي قرَّبت سيد قطب من الماركسية، وحملته على تبني المنهج الاشتراكي، وألَّف في ذلك كتابه: «معركة الإسلام والرأسمالية» - وكأنه يقول: «معركة الاشتراكية والرأسمالية» -، وكتابه: «العدالة الاجتماعية في الإسلام»؛ الذي طعن فيه في جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم: الخليفة الراشد عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، فزعم أن خلافته فجوة في الإسلام، وأثنى على الثوَّار عليه! وسأذكر هنا مثالًا واحدًا من كلامه يؤكد ما سبق من صريح كلامه في جعل غاية الخلق عمارة الأرض، وجعل العبادة مقصدًا تبعيًّا وهامشيًّا:
يقول سيد قطب في معالجة مشكلة (فساد العمل وضعف الإنتاج): «إن الإسلام يعالجها بإزالة مسبباتها المادية الأولى، ثم يعالجها بامتلاء النفس بالعقيدة الدافعة، العقيدة التي تملأ فراغ النفس وخواءها، وترفعها إلى الله، وتجعل للفرد هدفًا أكبر من ذاته، هو ذلك المجتمع الذي يعيش فيه، وتلك الإنسانية التي هو منها... إن الفرد بلا عقيدة كليَّة تربطه بالأرض والسماء؛ قزم ضائع، ولقًى مهمل، والعقيدة ضرورية حتى في عالم الشيوعية الذي يسخر بالعوامل الروحية في الحياة! فلولا حرارة العقيدة ما تلقَّى الألوف منافي سيبيريا وسجون القيصرية بمثل ذلك الحماس الذي مكَّن للحكم الشيوعي في نهاية المطاف!»([10]).
هكذا تتحدَّد غاية العقيدة عند سيد قطب في الفعل الدنيوي من أجل المجتمع والإنسانية. إن جعل هذا الفعل الدنيوي المادي هو الهدف الأسمى للإنسان وعقيدته؛ يؤدي حتمًا إلى إلغاء المكانة المركزيَّة للعبادة في الإسلام. وسيد قطب يلتزم بهذا اللازم، فيصرح به بعد أسطر:
«والإسلام عدوُّ التبطُّل باسم العبادة والتديُّن؛ فالعبادة ليست وظيفة حياة، وليس لهذا إلا وقتها المعلوم: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، وتمضية الوقت في التراتيل والدعوات بلا عمل منتج ينمِّي الحياة؛ أمرٌ لا يعرفُه الإسلام، ولا يقرُّ عليه تلك الألوفَ المؤلَّفة في مصر التي لا عمل لها إلا إقامة الصلوات في المساجد أو تلاوة الأدعية والأذكار في الموالد! ولو كان الأمر للإسلام لجنَّد الجميع للعمل..»([11]).
واستدلال سيد قطب بالآية من جهله المركَّب بمعاني القرآن؛ فهذا الأمر بالانتشار في الأرض وابتغاء الرزق جاء بعد التحريم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، فكان معنى الأمر: الإباحةُ بعد الحضر، لهذا أمرهم في تمام الآية بالإكثار من ذكر الله حتى لا يشتغلوا بالدنيا عن الغاية التي خلقوا من أجلها: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وهذا ما فهمه علماء الإسلام جيلًا بعد جيل، كما أخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد وعطاء قالا: «إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل»([12]). وأخرج - أيضًا - عن الضحاك قال: «هو إذن من الله، فإذا فرغ: فإن شاء خرج، وإن شاء قعد في المسجد»([13]). وقال الفراء (ت: 207): «هذا إِذْنٌ وإباحةٌ، من شاء باع، ومن شاء لزم المسجد»([14]). وقال ابن جرير الطبري (ت: 310): «يقول تعالى ذِكْره: فإذا قُضيت صلاة الجمعة يوم الجمعة، فانتشروا في الأرض إن شئتم، ذلك رخصة من الله لكم في ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. عن مجاهد أنه قال: هي رخصة. وعن الضحاك قال: هذا إذن من الله، فمن شاء خرج، ومن شاء جلس»([15]).
وقال أبو منصور الماتريدي (ت: 333): «خرج هذا في الظاهر مخرج الأمر، ولكنه في حكم الإباحة عندنا، لأن هذا أمر خرج على إثر الحظر، والأصل الجّمع عليه عندهم أن كل أمر خرج على إثر الحظر فهو في حكم الإباحة، وما خرج مخرج الإباحة فإن الحكم فيه ينصرف على تصرف الأحوال. فإن كانت الحالة توجب فرضًا كان فرضًا، وإن كانت توجب واجبًا فواجب، وإن أدبًا فأدب»([16]).
وتتابع المفسرون على تقرير هذا المعنى، فذكره: أبو بكر الجصاص الحنفي (ت: 370)، وأبو الليث السمرقندي (ت: 373)، وابن أبي زمنين المالكي (ت: 399)، وقال: «رخص لهم أن ينتشروا إذا صلوا إن شاؤوا، وإن أقاموا كان أفضل لهم»، وأبو إسحاق الثعلبيُّ (ت: 427)، ومكي بن أبي طالب (ت: 437)، وأبو الحسن الواحدي (ت: 468)، وأبو المظفر السمعاني (ت: 489)، وإلكيا الهراسي (ت: 504)، والبغوي (ت: 516)، والزمخشري (ت: 538) وقال: «ثم أطلق لهم ما حظر عليهم بعد قضاء الصلاة من الانتشار وابتغاء الربح، مع التوصية بإكثار الذكر، وأن لا يلهيهم شيء من تجارة ولا غيرها عنه، وأن تكون هممهم في جميع أحوالهم وأوقاتهم موكلة به لا ينفضون عنه، لأن فلاحهم فيه وفوزهم منوط به»، وابن عطية (ت: 542)، وابن الجوزي (ت: 597)، والفخر الرازي (ت: 606)، والقرطبي (ت: 671)، وأبو حيان (ت: 745)، وابن كثير (ت: 774)، وغيرهم كثير.
إن سيد قطب ينحو في هذا التفسير المنحى الفلسفي - الذي تقدَّم شرحه - في غاية النبوة والرسالة والعبادة ومنفعتها، فهي عندهم متعلقة بمصلحة العباد لا بكونها حقًّا خالصًا لله تعالى. ولا شكَّ أنَّ كلامَه هذا إساءةُ الأَدبِ مع ربِّ العالمين، فهو «الإله الحقُّ المستحقُّ وحده أنْ يُعبد، ويخاف، ويرجى، ويُتوكَّل عليه، فهو المستحق لغاية الحبِّ، بغاية الذُّلِّ، بغاية التَّعظيم، وليس لخلقه من دونه وكيلٌ، ولا وليٌّ، ولا شفيعٌ، ولا واسطة بينه وبينهم في رفع حوائجهم إليه، وفي تفريج كرباتهم، وإجابة دعواتهم»([17])، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].
ويقرر سيد قطب بأن المعروف الأكبر هو قيام المجتمع المسلم الذي تحكمه الشريعة، وغيابه هو المنكر الأكبر، ثم يقول:
«والذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم هاجروا وجاهدوا ابتداءً لإقامة الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة الله، وإقامة المجتمع المسلم المحكوم بهذه الشريعة»([18]).
وبما أن فَقْد الحكم يعني - عنده - فَقْد المجتمع المسلم (= تكفير المجتمعات)؛ فإنه يرى سقوط أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما دون الحاكمية التي هي الغاية والمقصد من الدين والدعوة: «فلما تم لهم ذلك كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في الفروع المتعلقة بالطاعات والمعاصي. ولم ينفقوا قط جهدهم، قبل قيام الدولة المسلمة والمجتمع المسلم في شيء من هذه التفريعات التي لا تنشأ إلا بعد قيام الأصل الأصيل! ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يدرك وفق مقتضى الواقع. فلا يبدأ بالمعروف الفرعي والمنكر الفرعي قبل الانتهاء من المعروف الأكبر والمنكر الأكبر، كما وقع أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم»([19]).
لا شكَّ في أن «قيام الدولة المسلمة» و«المجتمع المسلم» و«النظام السياسي الإسلامي»؛ من أحكام الشريعة الداخلة في «السياسة الشرعية»، فهذا القدر لا خلاف فيه، لكن المشكلة أن أصحاب التفسير السياسي والنَّفعي للدين ومقاصده؛ قد نقلوا «أحكام الشريعة التفصيليَّة» إلى مرتبة: «الأصول والمفاهيم والمقاصد الكليَّة» للإسلام، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى تفسير تلك الأصول والمفاهيم والمقاصد الأساسية من خلال نظرتهم إلى تحقق تلك الأحكام التفصيلية، ولما رأوا أنَّ جملة كبيرة منها غير متحقِّقة ـ إما بسبب تقصير المسلمين، أو بسبب عجزهم، أو بسبب عدم توفر الأسباب والأحوال والوسائل المحقِّقة لها -؛ فإنَّهم اعتقدوا أن «دين الإسلام» لا وجود له في الواقع، وأنَّ حقائقه الكبرى وأصوله العظمى غابت عن أذهان المسلمين منذ قرون طويلة، وأنَّ التزامهم الحالي به، وتمسكهم بعباداته وشعائره لا معنى له، ولا جدوى منه!
يقول سيِّد قطب - في الانتقال بالحكم الجزئي إلى مرتبة المفهوم الكليِّ لطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا شكَّ أن أصل «الطاعة» شرطٌ لصحة الإيمان -:
«إنَّ من أطاع بشرًا في شريعةٍ من عند نفسه، ولو في جزئيَّةٍ صغيرةٍ، فإنَّما هو مشرك. وإن كان في الأصل مسلمًا، ثم فعلها فإنما خرج بها من الإسلام إلى الشرك أيضًا، مهما بقي بعد ذلك يقول: أشهد أن لا إله إلا الله بلسانه. بينما هو يتلقى من غير الله، ويطيع غير الله»([20]).
وبناءً على هذا التأصيل ينتقل سيد قطب إلى الحكم على المجتمعات المعاصرة، فيقول:
«وحين ننظر إلى وجه الأرض اليوم - في ضوء هذه التقريرات الحاسمة - فإننا نرى الجاهلية والشرك، ولا شيء غير الجاهلية والشرك، إلا من عصم الله فأنكر على الأرباب الأرضية ما تدعيه من خصائص الألوهية ولم يقبل منها شرعًا ولا حكمًا إلا في حدود الإكراه»([21]).
وزاد سيِّد قطب هذا المعنى تأصيلًا وتوضيحًا في كتابه «العدالة الاجتماعية»، فقال - بعد أن ذكر آيات الطاعة -:
«كلها تقرر حقيقة واحدة: أنه لا إسلام ولا إيمان بغير الإقرار بالحاكمية لله وحده، والرجوع إليه فيما يقع عليه التنازع - مما لم يرد به نصٌّ - إذ لا رأي مع النص ولا نزاع، والحكم بما أنزل - دون سواه - في كل شؤون الحياة، والرضا بهذا الحكم رضا قلبيًّا بعد الاستسلام له عمليًّا. وأنَّ هذا هو «الدين القيم» وهذا هو «الإسلام» الذي أراده الله من الناس. وحين نستعرض وجه الأرض كلَّه اليوم - على ضوء هذا التقرير الإلهي لمفهوم الدين والإسلام - لا نرى لهذا الدين وجودًا. إنَّ هذا الوجود قد توقَّف منذ أن تخلَّت آخر مجموعةٍ من المسلمين عن إفراد الله سبحانه بالحاكمية في حياة البشر، وذلك يوم تخلَّت عن الحكم بشريعته وحدها في كل شؤون الحياة. ويجب أن نقرِّر هذه الحقيقة الأليمة، وأن نجهر بها، وألَّا نخشى خيبة الأمل التي تُحدِثُها في قلوب الكثيرين الذين يحبون أن يكونوا «مسلمين»، فهؤلاء من حقِّهم أن يستيقنوا: كيف يكونون مسلمين! إنَّ أعداء هذا الدين بذلوا طوال قرون وما يزالون يبذلون، جهودًا ضخمة ماكرة خبيثة ليستغلوا إشفاق الكثيرين الذين يحبون أن يكونوا مسلمين؛ من وقع هذه الحقيقة المريرة، ومن مواجهتها في النور! وتَحَرُّجُهم كذلك من إعلان أن «وجود» هذا الدين قد توقَّف منذ أن تخلَّت آخر مجموعةٍ مسلمةٍ في الأرض عن تحكيم شريعة الله في أمرها كله، فتخلَّت بذلك عن إفراد الله سبحانه بالحاكمية..»([22]).
وبناءً على هذا الانحراف الخطير في فهم حقائق الإسلام، ومراتب أحكام الديانة؛ بغَى سيد قطب على المسلمين بتكفيرهم، بما فيهم أولئك الذين يرفعون صوتهم بالأذان خمس مرَّات في اليوم، فقال:
«لقد استدار الزمانُ كهيئته يوم جاء هذا الدِّين إلى البشرية بلا إله إلا الله؛ فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان، ونكصت عن لا إله إلا الله، وإنْ ظلَّ فريقٌ منها يردِّد على المآذن: «لا إله إلا الله» دون أن يدرك مدلولها، ودون أن يعني هذا المدلولَ وهو يردِّدها، ودون أن يرفض شرعية «الحاكمية» التي يدعيها العباد لأنفسهم - وهي مرادف الألوهية - سواء ادَّعوها كأفراد، أو كتشكيلات تشريعية، أو كشعوب. فالأفراد، كالتشكيلات، كالشعوب، ليست آلهة، فليس لها إذن حق الحاكمية. إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية، وارتدت عن لا إله إلا الله، فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية، ولم تعد توحِّد الله، وتُخلص له الولاء. البشريةُ بجملتها، بما فيها أولئك الذين يردِّدون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات: «لا إله إلا الله» بلا مدلول ولا واقع. وهؤلاء أثقل إثمًا وأشدُّ عذابًا يومَ القيامة، لأنَّهم ارتدوا إلى عبادة العباد - من بعد ما تبيَّن لهم الهدى - ومن بعد أن كانوا في دين الله! فما أحوج العصبة المسلمة اليوم أن تقف طويلًا أمام هذه الآيات البيِّنات»([23]).
إنَّ «مدلول وواقع لا إله إلا الله» في فكر سيد قطب يقتصرُ على الأحكام المتعلقة بإقامة الحكومة والسلطة القادرة على تنفيذ مشروع «عمارة الأرض» الذي هو الغاية والمقصد - عندهم - من خلق الإنسان ووجوده على هذه البسيطة، لهذا لا يشفعُ لأولئك الذين يشهدون: أَن لا إله إلا الله، ويصلون ويصومون ويزكون ويحجون، ويعملون من الأعمال الصالحة بحسب علمهم وقدرتهم، ويجتنبون كبائر الذنوب، وأعظمها: الشرك بالله عزَّ وجلَّ.. كلُّ هذه الأمور لا يشفع لهم مع تقصيرهم - إن كان التقصير منهم حقًّا - في «إقامة الحكومة»، بل هم مرتدُّون، وأشدُّ عذابًا من الكفًّار الأصليين، لأنهم كفروا من بعد ما تبيَّن لهم الهدى!
إن النتيجةَ البديهيَّة اللازمة لهذا الفكر المنحرف في تفسير الدين وحقائقه هو الاستخفاف بالتديُّن الفرديِّ، والالتزام الشخصيِّ بشعائر الدِّين وأحكامه، وقد التزم سيد قطب - بجرأته المعروفة - بهذا اللازم، فقرَّر بعباراتٍ صريحة لا تحتمل التأويل هذه النتيجة، فقال:
«والإسلامُ نظام اجتماعيٌّ متكامل، تترابط جوانبه وتتساند، وهو نظام يختلف في طبيعته وفكرته عن الحياة ووسائله في تصريفها، يختلف في هذا كله عن النظم الغربية، وعن النظم المطبقة اليوم عندنا، يختلف اختلافًا كليًّا أصيلًا عن هذه النظم، ومن المؤكد أنه لم يشترك في خلق المشكلات القائمة في المجتمع اليوم، إنما نشأت هذه المشكلات عن طبيعة النظم المطبقة في المجتمع، ومن إبعاد الإسلام عن مجال الحياة. ولكن العجيب بعد هذا: أن يكثر استفتاء الإسلام في تلك المشكلات، وأن يطلب لها عنده حلول، وأن يطلب رأيه في قضايا لم ينشئها هو، ولم يشترك في إنشائها. العجب أن يُستفتَى الإسلامُ في بلادٍ لا تطبِّق نظامَ الإسلام، في قضايا من نوع «المرأة والبرلمان»، و«المرأة والعمل»، و«المرأة والاختلاط»، و«مشكلات الشباب الجنسية» وما إليها، وأن يستفتيه في هذا وأمثاله ناسٌ لا يرضون للإسلام أن يحكم، بل إنه ليزعجهم أن يتصوَّروا يوم يجيء حكم الإسلام! والأعجب من أسئلة هؤلاء أجوبة رجال الدين، ودخولهم مع هؤلاء السائلين في جدل حول رأي الإسلام وحكم الإسلام في مثل هذه الجزئيات، وفي مثل هذه القضايا، في دولة لا تحكم بالإسلام، ولا تطبِّقُ نظام الإسلام. ما للإسلام اليوم وأن تدخل المرأة البرلمان أو لا تدخل؟! ما لَهُ وأن يختلط الجنسان أو لا يختلطان؟! ما له وأن تعمل المرأة أو لا تعمل؟! ما له وما لأيَّة مشكلةٍ من مشكلات النظم المطبَّقة في هذا المجتمع الذي لا يدين للإسلام، ولا يرضى حكم الإسلام؟ وما بال هذه الجزئيات وأمثالها هي التي يطلب أن تكون وفق نظام الإسلام، ونظام الإسلام كلُّه مطرودٌ من قوانين الدولة، مطرود من حياة الشعب؟!...»([24]).
قلتُ: لقد فهم المسلمون منذ الصدر الأول وحتى يوم الناس هذا - على اختلاف فرقهم ومذاهبهم - أن الالتزام بالإسلام هو - ابتداءً وأساسًا - واجبٌ فرديٌّ، ومسؤوليَّة شخصية، يتديَّن به الإنسانُ في باطنه الذي لا يطَّلع عليه أحدٌ سوى الله عز وجلَّ، وفي ظاهره بحسب الممكن له من العلم والقدرة، أما الالتزام بالإسلام على المستوى الجماعي، وتنفيذ أحكامه على المجتمع من خلال السلطة والدولة؛ فهو ثمرة ونتيجة لذلك الالتزام الفرديِّ. فجاء التفسير السياسي والنفعي للإسلام ليقلب هذه الحقيقة الدينية الكبرى رأسًا على عقبٍ، فأصبح «الالتزام الجماعي» هو الأصل والأساس، وهو المقصد والغاية، وأصبح «الالتزام الفردي» تبعًا لذلك، وفي ضوء هذا نستطيع أن نفهم مظاهر رقَّة الدين وضعف الالتزام وعدم العناية بالعبادات والسنن وتتبع الشذوذات والرخص عند حاملي هذا الفكر المنحرف.
الهوامش:
([1]) «في ظلال القرآن»، دار الشروق، بيروت: ط: (17)، سنة: 1412، 3/1451، وهذا الكلام من نقلٍ طويلٍ عن المودودي، صدَّره سيد قطب بقوله 3/1444: «وبعدُ: فإنَّ هناك بقيةً في بيان طبيعة «الجهاد في الإسلام» و«طبيعة هذا الدين» يمدنا بها المبحثُ المجمل القيم الذي أمدنا به المسلم العظيم السيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان، بعنوان «الجهاد في سبيل الله»، وسنحتاج أن نقتبس منه فقرات طويلة لا غنى عنها لقارىء يريد رؤية واضحة دقيقة لهذا الموضوع الخطير العميق في بناء الحركة الإسلامية».
وراجع جملة من كلام سيد قطب في هذا المعنى في مقدمتي لكتاب: «التلخيص لوجوه التخليص» لأبي محمد ابن حزم رحمه الله، ص: 30-37. ومن نافلة القول أن غاية الجهاد في القرآن والسنة والسيرة النبوية هي دعوة الناس إلى عبادة الله تعالى وحده.
([4]) «في ظلال القرآن» 6/3387-3388، وكلامه طويل لا مجال لنقله بتمامه، وبعض جزئياته صحيح، لكن المقصود هنا المفهوم الكلي للعبادة والتكليف، فهو يجعل الخلافة وعمارة الأرض داخلة في ماهية العبادة، وليست من الواجبات المترتبة على الأحكام الشرعية التفصيلية. واستدلاله بآية سورة البقرة فيجعل آدم خليفة ، بعيدٌ عن الصواب، فالله تعالى أخبر أنه جاعل في الأرض خليفة، ولم يخبر بأنه سيجعل في الأرض من وظيفته الخلافة. وبين الأمرين فرق كبير، وليس هذا موضع مناقشة مسألة (الخلافة) و(العمارة)، وسنفردها بالبحث إن شاء الله تعالى.
([5]) «في ظلال القرآن» 4/1902.
([6]) «في ظلال القرآن» 4/1902.
([7]) «في ظلال القرآن» 4/1938.
([8]) «في ظلال القرآن» 4/1902.
([9]) «في ظلال القرآن» 4/1903، وقد كرَّره فرحًا به في موضع آخر: 4/1938.
([10]) «معركة الإسلام والرأسمالية» دار الشروق، بيروت: ط 13، 1414، ص: 49-51.
([11]) «معركة الإسلام والرأسمالية» ص: 52.
([14]) «معاني القرآن» 3 / 157.
([15]) «جامع البيان في تفسير آي القرآن» 23/385.
([16]) «تأويلات أهل السنة» 4/511.
([17]) «الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة» لابن القيم، دار العاصمة، الرياض: 1408، 3/933، 4/1490.
([18]) «في ظلال القرآن» 3/1720.
([19]) «في ظلال القرآن» 3/1737.
([20]) «في ظلال القرآن» [التوبة: 31] 3/1197.
([21]) «في ظلال القرآن» [التوبة: 31] 3/1197.
([22]) «العدالة الاجتماعية في الإسلام» ص: 183-184.
([23]) «في ظلال القرآن» [الأنعام: 12-19] 2/1057.
([24]) إلى آخر كلامه في كتابه: «دراسات إسلامية»، دار الشروق، القاهرة، ط: 10/2002م، ص: 86-94، ونحوه في «في ظلال القرآن» [يوسف: 53] 4/2006-2013.