لقد كان الظهور الأبرز للتفسير النفعي والاجتماعي والسياسي للإسلام في فكر الكاتب الهندي الشهير: أبي الأعلى المودودي (ت: 1399هـ/1979م)، فقد حكم هذا التفسير فكره، ووجَّه مشروعه الإصلاحي، وبثَّه المودودي بقلمه السيَّال في جميع كتبه ومقالاته، بالتصريح أحيانًا، وبالتدريج والإشارة والتلميح أحيانًا أخرى، وقامت «الجماعة الإسلامية» التي أسسها في الهند وباكستان على فكره، فتمكَّن بهذه الوسائل أن ينشر هذه النظرية الجديدة في تفسير الدين في أرجاء العالم الإسلامي كلِّه، وتأثَّر به كتاب ومفكرون ودعاة، أبرزهم على الإطلاق الكاتب والأديب المصري الشهير: سيد قطب (ت:1385/ 1966).
لم يقبل المودوديُّ الفلسفة الإلحاديَّة القديمة أو الحديثة في التفسير الأخلاقي أو النَّفعي أو الاجتماعي للدِّين، فقد كان الرجلُ صحيح الإسلام من هذه الجهة، وكان يردُّ الأفكار الإلحادية والمادية، لكنَّه تأثر - بحكم بيئته الثقافية، ودخوله في ميدان منازلة الفكر الغربي من غير حصانة علمية شرعية قويَّة -؛ تأثَّر بالمقولات الغربيَّة؛ فأراد أن يقدِّم بديلًا إسلاميًّا للمدنيَّة الغربية، ورأى أن النظام الإسلامي هو البديل للفلسفة الغربية في بناء المجتمع والدولة، وغالى في ذلك حتَّى نقل ذلك «النظام» من منزلته المقرَّرة في الدِّين بأنَّه جزء من الشريعة العملية - وهذه جزء من الرسالة المحمدية -؛ إلى أعلى مراتب الديانة الإسلامية، ثم ترقَّى بعد ذلك درجةً فزعم أنَّ تحقيق ذلك «النظام» - أي إصلاح المجتمع وإقامة الدولة - هي الحكمة المقصودة، والغاية المنشودة من الوحي والكتاب والشريعة والعبادة، فهو لبُّ الدين وجوهره وروحه، ومقصده الأعلى، وبدونه يصبح الدينُ كلُّه بلا معنًى. لقد أخذ المودوديُّ قالب النظرية الماركسية في تفسير الدِّين والتاريخ والاجتماع والعمران، وتخلَّص من مضمونها الإلحاديِّ، ثم ركَّب عليها المضمونَ الإسلاميَّ([1]).
إنَّ التأثير الكبير لجمال الدين الأفغاني ومدرسته أولًا، ثم لأبي الأعلى المودودي ومدرسته ثانيًا؛ انتهى بأدبيَّات الحركات الإسلامية المعاصرة - كما ذكرنا سابقًا - إلى تقريرٍ - صريحٍ أو ضمنيٍّ، كليٍّ أو جزئيٍّ - مفادُه إجمالًا: أنْ لا معنى للصلاة والصوم وسائر العبادات إذا لم يحقِّق الإنسانُ الغايةَ الحقيقيَّةَ التي من أجلها خلقه اللهُ تعالى وهي: «تنفيذ منهاج الله لإقامة النظام الاجتماعي وعمارة الأرض»، وهذه هي العبادة الحقيقية المقصودة لذاتها، أما الصلاة والصوم والذكر والدعاء وسائر العبادات فتمارين رياضيَّة حتَّى يتهيَّأَ الإنسانُ للقيام بتلك الوظيفة الكبرى!
يقول أبو الأعلى المودودي مقرِّرًا هذه العقيدة: «إنَّ الصلاة والزكاة والحج كلها للتربية، كما أنَّ دول العالم تقوم أولًا بتربية شعوبها للجيش والأعمال المدنيَّة ثم تستخدمهم فيها، كذلك الدِّينُ الإسلاميُّ يربِّي - بطريقةٍ خاصَّة - مَنْ يدخل فيه ويتجنَّدُ لخدمته، ثم يستخدمه للجهاد والحكومة الإلهيَّة». ثم يقول: «أيها الإخوة! لعلكم قد فهمتم جيِّدًا الغرضَ الذي لأجله شُرعتِ الصلاة والصيام والحج والزكاة، لقد كنتم تفهمون إلى الآن، وأَفهَمُوكُم هذا الفهمَ الخاطىء: أنَّ العبادات هي نوعٌ من الأشياء التعبُّديَّة، ولم يُخبرونكم أنَّها للإعداد للخدمة الكبرى!»([2]).
ويقول المودوديُّ أيضًا: «إنَّ العقبة الثانية في طريق الحركة الإسلامية هي المذهبيَّة الجامدة اللاروحية([3])، والتي يعبَّر عنها بالإسلام في العصر الحديث، فأول نقصٍ أساسيٍّ لهذه المذهبيَّة الخاطئة أنَّها اعتبرت العبادات تعبُّدًا محضًا، مع أنَّها وسائلُ لإِحكام الأُسس الخلقية والعقلية التي أَسَّس عليها الإسلامُ نظامَه الاجتماعيَّ»([4]).
ويقول أيضًا: «هذا هو الغرض الذي من أجله فُرضت الصلاة والصوم والزكاة والحجّ في الإسلام، وليس معنى تسميتها بالعبادات أنها هي العبادات، بل معناه: أنَّها تُعِدُّ الإنسانَ للعبادة الأصلية، وهذه دورة تدريبيَّة لازمة لها»([5]).
ويقول المودودي أيضًا: «إن الله قد أراد ببَعْثِهم أن يقيم في العالم نظام العدالة الاجتماعية Social Justice على أساس ما أنزله عليهم من البيِّنات، وما أنعم عليهم في كتابه من الميزان، أي: نظام الحياة الإنسانية العادل»([6]).
ومن أشهر كتب المودوديِّ، وهو مكوِّنٌ أساسي لعقلية الشباب المسلم في أجيال متعاقبة، وقد ترجم إلى أكثر من ثلاثين لغة عالمية، ألا وهو كتاب «مبادئ الإسلام»، حيث تمكَّن فيه المودودي - بذكائه وعبقريته - أن يبُثَّ التفسير السياسي والمادي للإسلام في ثنايا عرضه لمبادئ الإسلام ومقاصده الكلية، وتمكَّن - بهدوء، وبكلام طويل متناسق - أن يغرزَ في ذهن القارئ أن المقصد من الدين، والغاية من العبادة تنحصر في: توجيه الإنسان لعمارة الأرض وفق المشروع الإلهي:
قال في (الفصل الخامس: العبادات): «... وتعال نتبيَّن ذلك الطريق الذي أمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن نسلكه لقضاء حياتنا وفقًا لمرضاة الله تعالى. وأول شيء في هذا الكتاب هو العبادات المكتوبة»، ثم شرع في بيان معنى العبادة، فبيَّن أن: «كلَّ ما يأتي به العبد في طاعة معبوده هو العبادة. فمثلاً إذا كلمت الناس واجتنبت الكذب والغيبة والفحش والبذاءة في كلامك معهم، لأن الله قد نهاك أن تأتي بهذه الأمور. وتحريت الصدق والعدل والمعروف والخير في كلامك لهم، لأن الله يحب هذه الأمور، فكلامك هذا عبادة لله تعالى...»([7])، ثم ذكر أمثلة سلوكيَّة كثيرة، ثم قال: «وليس الأكل والشرب والنوم واليقظة والقعود والقيام والمشي والكلام والسكوت إلا من العبادة في حياة كهذه. هذه هي العبادة وهذا هو معناها الحقيقي. وما غرض الإسلام إلا أن يجعل الإنسان يعبد الله مثل هذه العبادة في كل حين من أحيانه، وقد افترض عليه لهذا الغرض مجموعة من العبادات تهيئةً لهذه العبادة الكبيرة، فكأنَّه ليست هذه العبادات المفروضة إلا بمثابة هذه التربية للعبادة الكبيرة المنشودة، فكل من يتلقى هذه التربية على أحسن وجه، يؤدي العبادة الحقيقية على الوجه المراد، ومن أجل ذلك جعلت هذه العبادات عين الفريضة في الإسلام، وقيل إنها أركان الدين، أي دعائمه التي يقوم عليها بناؤه. فكما أن كل بناء لا يقوم إلا على مجموعة من الدعائم، كذلك لا يقوم بناء الحياة الإسلامية إلا على هذه الدعائم، فمن هدمها فقد هدم بناء الإسلام نفسه»([8]).
وهكذا يقرِّرُ المودودي أنَّ الأركان الأربعة: الصلاة والزكاة والصوم والحج؛ ليست عبادات حقيقيَّة مقصودة لذاتها، بل هي وسائل تربويَّة للعبادة الحقيقة، وهي السلوك الإنساني وفق منهج الله تعالى، ومن هنا جاز أن تسمى تلك الوسائل بالعبادات المكتوبة وبالأركان والدعائم، لأنَّه لا يمكن الوصول إلى المقاصد والنتائج إلا بممارستها.
ثم شرع المودوديُّ شرح الأركان الأربعة وفقًا لنظريته هذه، فالصلاة وسيلة لتذكر ما على العبد من العهد والميثاق لعمارة الأرض على منهج الله، لهذا قال - بعد شرح طويل -: «إن الصلاة هي التي لا تنفك تدعم أساس إسلامك خمس مرات في كل يوم، وتعدُّك للعبادة الواسعة الحقيقية التي قد ذكرناها لك آنفًا. وهي التي تذكرك دائمًا بالعقائد التي تنحصر فيها طهارة نفسك، وارتقاء روحك، وصلاح أخلاقك وأعمالك»، ثم ذكر ما في الصلاة من اتباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الأحكام والتقيد بها، ليخلص إلى القول: «هل يمكن أن تكون للإنسان تربية خير من أن يجدد ذكر الله تعالى وخشيته، واليقين بكونه خبيرًا بصيرًا، والاعتقاد بالحضور في محكمته يوم القيامة، ويتبع الرسول عدة مرات في ليله ونهاره، ويتدرب على القيام بالواجب بعد كل ساعات من يومه وليله؟ إن هذا الإنسان يرجى منه عندما يشتغل بأمور معاشه بعد خروجه من المسجد أن يخاف الله، ويتبع قانونه،...»([9]).
وبثَّ هذا المعنى في شرحه لمقصود الصوم، ليخلص إلى القول: «يأتيك شهر رمضان كل عام، ليُعنَى بتربيتك ثلاثين يومًا كاملًا على هذه الصفات والأخلاق العالية، حتى تكون مسلمًا كاملًا حقًّا، وتجعلك هذه الصفات والأخلاق قابلًا للقيام بالعبادة الحقيقية، التي يجب أن يؤديها المسلم في كل لحظة من لحظات حياته...»([10]).
فانظر كيف جرَّد المودودي أركانَ الإسلام - التي هي أصول العبادات المحضة المقصودة لذاتها - من أهمِّيتها الذاتية، وجعل أهميتها ومكانتها معلولة بكونها سببًا ووسيلةً إلى ما سماه بالعبادة الكبرى المنشودة، وهي - عنده - عمارة الأرض وفق المشروع الإلهي، لهذا عُني هو - ومن أخذ عنه، وتأثر به، مثل الكاتب الشهير سيد قطب - بمسألة تحكيم الشريعة، وصارت (الحاكمية) هي القضية المركزية في الخطاب الحركي، بِعَدِّها المرجعية الوحيدة لمشروع عمارة الأرض وإقامة المدينة الفاضلة، وهو الغاية القصوى، والحقيقة الكبرى من الوحي والنبوة والرسالة! وفَرْقٌ بين اهتمام العلماء الربانيِّين بتحكيم الشريعة من منطلق أنه من أحكام الدين وواجباته، فالقيام به طاعة، والتفريط فيه معصيةٌ قد تبلغ درجة الكفر - على التفصيل المتقرِّر عند علماء أهل السنة والجماعة([11]) -، وبين اهتمام المفكرين الإسلاميين من منطلق أنه المرجعية التشريعية لمشروع عمارة الأرض، إزاءَ المرجعية الماركسية والرأسمالية وغيرهما.
الهوامش:
([1]) نبَّه على هذه الجزئية العلامة وحيد الدين خان.
([2]) «خطابات» للمودوديِّ، ص: 215 و218، كما في «الأستاذ المودودي ونتائج بحوثه وأفكاره» للشيخ محمد زكريا الكاندهلوي (ت: 1402)، طبع باكستان: 1397، ص: 46. ويقصد بقوله: «أفهموكم» علماء الأمة ودعاتها. وبقوله: «الإعداد للخدمة الكبرى» أي: تنفيذ مشروع إقامة الدولة وعمارة الأرض!
([3]) لا شكَّ أن الأمة الإسلامية قد ابتليت في العصور المتأخرة بالمذهبية الجامدة، ولكنها لم تكن كما وصفها «لا روحيَّة»، بل كانت الصفة الغالبة على العلماء والدعاة المذهبيِّين التديُّن وتعظيم العبادات وحب الله ورسوله ودينه؛ لهذا توجه كثير منهم إلى التصوف بسبب الجهل وانتشار البدع. وفي المقابل فإن الإسلام السياسي الحركي قد أبدل الجمود المذهبي بالجمود الحزبي، وهو الذي يتصف ـ حقًّا ـ باللاروحيَّة؛ إن جاز استعمال هذا المصطلح.
([4]) مجلة «ترجمان القرآن» المجلد 17 العدد 4 ص: 261، كما في «الأستاذ المودودي ونتائج بحوثه وأفكاره» ص: 47.
([5]) «العبادات الإسلامية» للمودودي، 12، كما في «الأستاذ المودودي ونتائج بحوثه وأفكاره» ص: 44.
([6]) «نظرية الإسلام السياسية» للمودودي، دار الفكر، دمشق: 1967م، ص: 40.
([8]) «مبادئ الإسلام» ص129 ـ 130.
([9]) «مبادئ الإسلام» ص131 ـ 133.
([11]) أنظر في المسألة : «مجموع الفتاوى» لابن تيمية 3/267، 7/312، و«منهاج السنة» له 5/130، و«مدارج السالكين» لابن القيم 1/336، و«الصلاة وحكم تاركها» له 72، و«تفسير ابن كثير» 2/61، و«الموافقات» للشاطبي 4/39، «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز الحنفي 2/446، و«منهاج التأسيس» لعبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ 71، و«تفسير السعدي» 2/296، و«مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ» 1/80، و«أضواء البيان» لمحمد الأمين الشنقيطي 2/103، و«مجموع فتاوى ومقالات الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز» 2/325، 5/355، 9/79، 9/124، 27/26، والفصل السادس من «كتاب التوحيد» لصالح بن فوزان الفوزان، وفيه تفصيل جيِّد: 63-71.