قبل أن أنتقل إلى الحديث عن التفسير السياسي عند المودودي وسيد قطب؛ أرى من المناسب أن أذكر نموذجًا لهذا التفسير لأحد الكتاب البارزين في العصر الحديث، وهو الدكتور محمد البهي (1323 – 1402 / 1905 – 1982 )([1]) ، وكان معجبًا بابن صفدر ومحمد عبده، ولم يكن من الإخوان المسلمين، لكن كتاباته من المراجع المهمة للحركة الإسلامية، لأنها تحمل نفس الفلسفة في تفسير الدين([2])، وقد أفصح عنها في كلامه على قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 16-18] فزعم أنَّ الله تعالى: «حدَّد الهدفَ من خلق العالم، وحدَّد أن خلقه ليس للَّهو واللَّعب وإنما لما هو أعظم شأنًا، وإنما هو ممارسة الصراع فيه بين الحقِّ والباطل، ثم نصرةُ الحقِّ على الباطل أخيرًا نصرًا مبينًا([3])... ومدَّة وجود السموات والأرض ـ إلى يوم البعث ـ تعتبر كأنَّها المسرحُ الزمنيُّ لصراع الحقِّ والباطل. وكأنَّ «الإنسانَ» منذ أن نزلَ إلى هذه الأرض ووُجد عليها مُطالبٌ بأن يكون في جانب الحقِّ ونصرته إلى موته، وإلى بعث النَّاس جميعًا. ومُطالبٌ بأن يبذل جهده في جانب الحقِّ في غير انقطاع وفي غير تراخٍ. وحياة الإنسان في الدرجة الأولى إذن ليست حياة أكلٍ ونسلٍ، وإنما أصلًا هي حياةُ كفاحٍ وصراعٍ ومقاومةٍ. أمَّا الأكل والنَّسل فضرورتهما للإنسان أنَّه يتمكن عن طريقهما من الاستمرار في الكفاح والصراع والمقاومة، وهو هدف إنسانيَّته في وجوده على هذه الأرض...».
ثم قال - محدِّدًا مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام والغاية من دعوتهم وجهادهم- : «ورسالات الرسل هي لذلك: في تبصير الأفراد بمكان قيادة العقل في حياتهم، وبنتائج جنوح الغرائز من أضرارٍ نفسيَّة وبدنيَّة تؤذيهم وتقلقهم. وفي تبصير المستضعفين في الأرض بمكانهم في الحياة وباعتبارهم الإنساني، وبحقوقهم الفطرية في الحياة، مع مطالبة الأفراد بالاعتدال في الاستجابة لغرائزهم، ومطالبة المستضعفين بالثورة على الظلم والطغيان والاعتداء ضد الطغاة والأقوياء والمستبدِّين... ورسالة السماء في عمومها ثورة على الباطل من أجل الحقِّ، وعلى الإضلال والغواية من أجل الهداية. والمؤمنون برسالة الله هم جنود الثورة الإلهية يفدونها بأموالهم وأنفسهم»([4]).
الهوامش:
([1]) أكمل دراسته العلمية في الأزهر، وابتعث إلى ألمانيا، فحصل على الدكتوراه في الفلسفة والدراسات الإسلامية من جامعة هامبورغ، ودرَّس الفلسفة في الأزهر، وعين أول مدير الجامعة الأزهر بعد صدور قانون تطوير الأزهر سنة: ۱۳۸۱/ ۱۹61، كما عيِّن وزيرًا للأوقاف في السنة التالية، وترك أكثر من سبعين مؤلفًا في الفلسفة والكلام والقضايا الفكرية المعاصرة، من أشهر تلاميذه والعاملين تحت إدارته في الإدارة العامة للثقافة الإسلامية بالأزهر: الدكتور يوسف القرضاوي
([2]) ذكر أحمد عبد المجيد (1933-2012) - أحد تلاميذ سيد قطب المقرَّبين - في «الإخوان وعبد الناصر: القصة الكاملة لتنظيم 1965م» الزهراء للإعلام العربي، القاهرة: 1911م؛ أن البرنامج العلمي والتربوي الذي وضعه سيد قطب للتنظيم اشتمل على بعض كتب محمد البهي، وقال: «الكتاب لا الكاتب»!
([3]) مع أنَّ تلك الآيات الكريمة لا تدلُّ على هذا المعنى؛ فإننا لا ننكر أن الإنسانَ المؤمن طرف مشاركٌ ـ ولا بدَّ ـ في صراعٍ دائمٍ بين الحق والباطل، وهو صراع قد يقوى وقد يضعف، ولا يشترط أن يكون دائمًا مع أبناء جلدته من الإنس، فأصله مع النفس والهوى والشيطان، ثم مع المنافقين والمشركين وسائر الكفار. لكن هذا الصراع ليس مقصودًا لذاته، ولم يخلق الله تعالى الجنَّ والإنس من أجل معاناته، وإنَّما خلقهم لعبادته وحده كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذَّاريات: 56]، فإذا قاموا بهذه الوظيفة العظيمة التي خلقوا من أجلها؛ دخلوا في صراع مع النفس والهوى والشيطان وجنوده. فهو صراعٌ ناتجٌ عن إقامة العبودية لله، فإن كانت النيَّة والغاية منه إقامتها فهو صراعٌ محمود، وإلا فهو صراعٌ من أجل الدنيا وحطامها الزائل.
إنَّ المعنى الحقيقي لتلك الآيات يظهر من خلال تلاوة ما بعدها مباشرة، حيث يتجلَّى موضوع الصراع وأسبابه ووظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام في إظهار الحقِّ فيه: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 19-25].
([4]) «الفكر الإسلامي والمجتمع المعاصر: مشكلات الحكم والتوجيه» للدكتور محمد البهي، دار الكتاب اللبناني، بيروت: 1982م، ص: 21-26، تحت عنوان (رسالة الإنسان على الأرض).