النتائج الأولية لقراءة كتابات الشيخ حسن البنّا مفاجئة وصادمة للأكثرين، فالأدلة التفصيلية تثبت أنّ الرجل - غفر الله لنا وله – كان محكومًا بهذه النظرية في فهمه للإسلام ومقاصده وغاياته، وفي فكره الإسلامي، ومشروعه الدعوي، وجهوده الحركية، وتقريره لها في غاية الغموض والخفاء ممّا يدل على تشرّبه بهذه الفكرة، وهضمه لها، بحيث استطاع أن يحولها إلى فكرة كليّة، ومشروع شامل، دون أن يضطر إلى التطرق إليها بتفسيرات جزئية، وعباراتٍ صريحةٍ، خلافًا الصنيع المودودي مِن بَعْدِه.
كان الأستاذ حسن البنا صاحب فكرٍ شاملٍ، ورؤيةٍ كليّة، لهذا نجد قضية «الغاية والوجهة» حاضرة في خطابه ودعوته، فيقول: «وقد حان الوقت الذي يجب فيه على المسلم أن يُدرك غايته، ويحدّد وجهته، ويعمل إلى هذه الوجهة حتى يصل إلى الغاية»([1])، وهو يدرك أهمية «الغاية» التي تستحوذ على القلب والعقل وتقود التصرف والعمل، فيقول - وقد أصابَ وصدَق- : «الغاية أصل، والأعمال فروع لها، الغاية هي التي تدفع إلى الطريق»([2])؛ فلا جرم أن وقَّف حياته – كلها- على العمل لتلك الغاية والوجهة، وأسّس لها جماعةً عالميةً ، ربَّى أتباعها عليها، وغرس فيهم ما سماه هو بـ: «إسلام الإخوان المسلمين»([3]) ، فظنوا أنّه الإسلام الحقُّ، أو الفهم الصحيح للإسلام ومنهاجه القويم، ولعلَّ أكثرهم لم ينتبه أنّ: «إسلام الإخوان المسلمين»؛ إنما هو: «إسلام التفسير السياسي للدِّين»، لا الإسلام الحق كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وربَّى عليه أصحابه الكرام، وسار عليه عامة المسلمين من السلف والخلف!
فالإسلام الحقُّ يقرّر بأنّ «غاية الدّين» هي إقامة «غاية الخَلق»، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، لهذا جاء الأمر الإلهي الشرعي الدِّيني مطابقًا لغاية الخلق، كما قال تعالى : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]؛ فالعبادات مقصودةٌ لذاتها ، تعبدًا لله تعالى، وتقربًا إليه، ورجاء لرحمته في الدنيا والآخرة، ولا يمكن أن تكون وسيلةً لأي غرض دنيويٍّ، ومقصد عاجل زائل، وإنما المصالح الدنيوية، والمكاسب المادية ؛ ثمارٌ ونتائجُ طيبةٌ لإقامة العبودية لله تعالى.
أما «إسلام البنّا»، فيقرر بأنّ غاية هذا الدين هي إقامة «النظام الاجتماعي العالمي»، وقد اختار الله تعالى المسلمين للقيام بهذه المهمة، فهي وظيفتهم وغايتهم في هذه الحياة. قال حسن البنا تحت عنوان «غاية الحياة في القرآن»: «إن القرآن حدّد غايات الحياة ومقاصد الناس فيها»([4])، ثم بيّن بعض مقاصدهم المادية والشهوانية الفاسدة، وقال :
«تلك مقاصدُ من مقاصد الناس في الحياة، نزّه الله المؤمنين عنها، وبرأهم منها ، وكلفهم مهمةً أرقى، وألقى على عاتقهم واجبًا أسمى، ذلك الواجب هو: هداية الناس إلى الحق، وإرشاد الناس جميعًا إلى الخير، وإنارة العالم كله بشمس الإسلام، فذلك قوله تبارك وتعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 77، 78]. ومعنى هذا: أنَّ القرآن الكريم يُقيم المسلمين أوصياء على البشرية القاصرة، ويُعطيهم حق الهيمنة والسيادة على الدنيا ، لخدمة هذه الوصاية النبيلة، وإذن ؛ فذلك من شأننا لا من شان الغرب، ولمدنية الإسلام لا لمدنية المادة»([5]).
إنّ الآية صريحة واضحة في أنّ مهمة المؤمنين في هذه الحياة هي إقامة العبودية لله تعالى بالصلاة والزكاة وسائر أنواع العبادات، لكن حسن البنا استخرج منها- بخياله الواسع - مهمةً أخرى، هي إقامة النظام الاجتماعي لسعادة البشرية. هذا المفهوم عاد البنَّا إلى تأكيده في الصفحة التالية، فقال:
« ولما كانت الغاية في أمننا غامضة مضطربة كان لا بدَّ من أن نوضِّح ونحدّد، و أظنُّنا وصلنا إلى كثير من التوضيح، واتَّفقنا على أن مهمتنا: سيادةُ الدنيا، وإرشادُ الإنسانية كلها إلى نُظُم الإسلام الصالحة وتعاليمه التي لا يمكن بغيرها أن يسعد الناس»([6]).
ما عبر عنه البنّا هنا «بغموض الغاية واضطرابها في الأمة»؛ هو ما عبر عنه المودودي - لاحقًا - بانحراف الأمة وجهلها بالمصطلحات الأربعة في القرآن : «الإله والرب والدين والعبادة»، وهو - أيضًا – ما عبر عنه سيد قطب بجاهلية القرن العشرين، وأدّى به إلى تكفير المجتمعات المسلمة عامةً.
إذا كانت غاية الرسالة والتكليف هي الوصاية على البشرية لإقامة «مدنية الإسلام »، فلماذا شرعت العبادات الأصلية المحضة كالصلاة والزكاة والصيام والحج ؟؟
إن جواب نظرية التفسير السياسي للدين هو: أنها شُرعتْ لتكون عواملَ تربويةً، ووسائل تدريبيّة، لتهيئة الإنسان للمهمَّة التي خلق من أجلها.
يقول حسن البنا في تقرير هذا الجواب - تحت عنوان «الشعائر العملية لهذا النظام» - :
«وقد خالف النِّظام القرآنيُّ غيره من النظم الوضعية، والفلسفات النظرية، فلم يترك مبادئه وتعاليمه نظريات في النفوس، ولا آراءً في الكتب، ولا كلمات على الأفواه والشفاه، ولكنَّه وضع لتركيزها وتثبيتها والانتفاع بآثارها ونتائجها مظاهرَ عمليّةً، وألزمَ الأمة التي تؤمن به، وتدين له بالحرص على هذه الأعمال، وجعلها فرائض عليها لا تقبل في تضييعها هوادة، بل يُثيب العاملين، ويعاقب المقصِّرين عقوبةً قد تخرج بالواحد منهم من حدود هذا المجتمع الإسلامي، وتطوح به إلى مكانِ سحيق، وأهم هذه الفرائض التي جعلها هذا النظام سياجا لتركيز مبادئه، هي :
أ) الصلاة والذكر والتوبة و الاستغفار ... الخ
ب) الصيام و العفة والتحذير من الترف.
ج) الزكاة و الصدقة والإنفاق في سبيل الله
د) الحج و السياحة والرحلة والكشف والنظر في ملكوت الله. ... »
وذكر فرائض وشرائع أخرى إلى أن قال:
«فالمسلم مطالب بأداء هذه الواجبات، والنهوض بها كما فصَّلها النظام القرآني، وعليه ألا يقصِّر في شيءٍ منها، وقد ورد ذِكْرها جميعًا في القرآن، وبيَّنتها بيانًا شافيًا أعمال النبي وأصحابه والذين اتبعوهم بإحسان في بساطة ووضوح، وكلُّ عمل فيها - أو عدّة أعمال – تقوي وتركِّز مبدأ - أو عدةَ مبادئ - من النظريات السابقة التي جاء هذا النظام لتحقيقها، وإفادة الناس بنتائجها وآثارها»([7]).
إذن ؛ العبادات المحضة إنما هي «وسائل عملية تقوِّي وتركِّزُ وتثبِّت» النظام الذي شرع الله تعالى من أجل إقامته دينَ الإسلام، ووضع له النظريات والمبادئ التي غايتها : «إفادة الناس بنتائجها وآثارها».
هنا لا بد أن نستذكر ما نقلناه سابقًا من كلام ابن سينا في تقرير هذا المعنى، ولن نتجنَّى على حسن البنَّا باتهامه بالسَّرقة الفكرية ؛ مهما تطابقت الأفكار، وتشابهت الألفاظ!
قال ابن سينا في بيان تدبير النبيِّ لبقاء ما يسنُّه ويشرعه في أمور المصالح الإنسانية، فذكر من وسائل ذلك : الطهارة والصلاة والصيام والحج، وأشار إلى ما يسنُّه النبيُّ من آدابها ورسومها ، ثم قال في منفعتها وغايتها :
«فهذه الأحوال ينتفع بها العامة في رسوخ ذكر الله - عزَّ اسمه - في أنفسهم، فيدوم لهم التشبُّثُ بالسنن والشرائع بسبب ذلك، وإن لم يكن لهم مثل هذه المذكرات تناسوا جميع ذلك مع انقراض قرنِ أو قرنَين»([8]).
بعد هذا -كلِّه- فلا عجب في أن يصرح البنَّا بأنّ العباداتِ وسائل لغيرها، فنجده يقول - وهو يشرح آيتي سورة الحج - :
«ثم أوضح الحقُّ تبارك وتعالى للناس - بعد ذلك - الرابطة بين التكاليف - من صلاة وصوم - بالتكاليف الاجتماعية، وأن الأولى : وسيلةٌ للثانية، وأن العقيدة الصحيحة أساسهما معًا»([9])
كلام البنَّا هذا صريح في جعل الصلاة والصيام (وهي الأولى) «وسيلة» للتكاليف الاجتماعية (وهي الثانية)، وما هو بزلَّة قلم، ولا خطإٍ في التعبير، بل اعتقادٌ جازمٌ، وقناعةٌ راسخةٌ، بنى عليها فكره ودعوته، يظهر أثرها - عند التدبُّر والتأمُّل - في كل سطرٍ من سطور كلامه، وفي كل خطوةٍ من خطوات دعوته، أما التصريحُ فنادرٌ جدًا، منه كلامه هذا، ومنه كلامه في موضع آخر - وهو يشرح مبادئ دعوته، ومنها : «العالمية أو الإنسانية، فهي هدفنا الأسمى، وغايتنا العظمى، وختام الحلقات في سلسلة الإصلاح»([10]) - فنجده يقول :
«وهذه الصلاة، وتلك الزكاة، والحج، والصوم؛ إنَّما هي – كلُّها - تشريعات اجتماعية، يُراد بها توثيق الوحدة، وجمع الكلمة، وإزالة الفوارق، وكشف الحُجُب والموانع بين بني الإنسان. ومن هنا كانت دعوتنا ذات مراحل، نرجو أن تتحقَّق تباعًا، وأن نقطعها جميعًا، وأن نصل بعدها إلى الغاية»([11]).
لقد تخرّج حسن البنّا من دار العلوم، وحفظ القرآن الكريم، وكانت له حصيلة من العلوم العربية والشرعية، وآتاه الله ذكاءً وفطنةً ، فكان يعي ما يقول، ويقصد ما يقول، وكان يدرك جيدًا دلالة استعمال (إنّما) و(كلها) في سياق كلامه هذا. لهذا -كله - نطمئنُّ إلى القول بأنّ حسن البنّا كان يعتقد بأن الصلاة - التي هي كما قال : «البُ العبادة ، وعمود الإسلام، وأظهر مظاهره»([12]) - وسيلةٌ للتكاليف الاجتماعية. ولا شك أن الوسيلة لها مرتبة ثانوية، يُعمل بها لغايةً أكبر، ومقصد أعلى، وهو هنا : «التكاليف الاجتماعية»، لهذا نجد البنّا يستخدم التكاليف الشرعية - حتَّى العبادات المحضة - وسائل لبلوغ ما يراه غاية من الأهداف التربوية والتنظيمية، وهو ما عبر عنه أعلاه بقوله: «دعوتنا ذاتُ مراحلَ، ... نصل بعدها إلى الغاية»؛ فهي ليست دعوة دينية ترى أن غاية الدعوة ومقصدها في إقامة الدين نفسه؛ بإصلاح عقيدة الفرد وعبادته وأخلاقه وسلوكه ابتغاء مرضاة الله تعالى والفوز والنجاة في الآخرة، بل تتَّخذُ التديّن والتعبُّد وسيلة للنشاط الاجتماعي والسياسي ، لهذا نجده يقول في رسالته «نظام الأسرة»:
«لزيادة الترابط بين الإخوان عليهم أن يحرصوا على:
1- القيام برحلات ثقافية لزيارة الآثار والمصانع وغير ذلك.
۲ - القيام برحلات قمرية رياضية.
٣- القيام برحلات نهرية للتجديف.
4 - القيام برحلات جبلية أو صحراوية أو حقلية.
5 - القيام برحلات متنوعة بالدراجة.
6 - صيام يوم في الأسبوع أو كل أسبوعين.
۷ - صلاة الفجر جماعة مرةً كلَّ أسبوع على الأقلِّ في المسجد.
۸ - الحرص على مبيت الإخوان مع بعضهم مرة كل أسبوع أو أسبوعين»([13]).
مثل هذا النص في جعل صلاة الفجر جماعةً - لا على وجه الالتزام اليوميِّ تديُّنًا وتعبدًا - وسيلةً لأهداف تنظيمية، وذكرها مع نشاطات عادية بحتة؛ هو المفتاح الحقيقي لفهم فكر حسن البنَّا ودعوته، وتفسير أعماله ومواقفه، وإلا فسيبقى جميع الردود والانتقادات الموجهة إليه وإلى دعوته وجماعته في إطار نقد الانحرافات والمخالفات التفصيلية الجزئية.
الهوامش:
([1]) «مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا»، دار الدعوة ، الإسكندرية : 1410 ، 20 .
([2]) «مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا» 44 .
([3]) «مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا» 171 .
([4]) «مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا» 24 .
([5]) «مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا» 42 - 43 .
([6]) «مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا» 44 .
([7]) «مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا» 147 - 148 .
([8]) «كتاب النجاة» 338 – 343 .
([9]) «مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا» 51 .
([10]) «مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا» 131 .
([11]) «مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا» 131 - 132 .