رغم فشل ابن صفدر سياسيًّا، ومواجهة الفقهاء لدعوته؛ فقد نجح إلى حدٍّ كبير في نشر أفكاره، فقد كان عظيم التأثير في عصره، «وكان مُلهِمًا لمعظم الحركات الإسلامية التي ظهرت في العالم الإسلامي حتى الحرب العالمية الأولى، أما الكتاب والمفكرون الإسلاميون الذين عاشوا بين الحربين فقلَّ أن أفلت أحدٌ منهم من تأثيره أو توجيهه أو الإحالة إليه»([1])؛ لهذا انتشر فكره، وكثير ممَّن لم يحملوا دعوته، ويسلكوا سبيله؛ تأثروا بأفكاره، وتسرَّبت إليهم بعض الآثار السيئة لتفسيره النفعي والاجتماعي والحضاري للدِّين، ممَّا كان له تأثيره على منهجهم الفكري والدعوي والإصلاحي.
ورغم ذلك فقد بقيَ فكرُ ابن صفدر فكرًا نُخْبَويًّا، ولم يجد طريقه إلى عامة المسلمين حتى ظهور حسن البنا (1324-1368هـ/1906-1949م)، الذي أسَّس حركة الإخوان المسلمون (1928م)، وتمكَّن من نقل النظريات الفكرية والفلسفية لابن صفدر - ومن في طبقته - حول الدين والإصلاح والتغيير من صيغتها العلمية المغلقة، إلى مفاهيم ومبادئ عامة، وحركة شبابية وشعبية واسعة، ولم يتم له ذلك إلا بالعمل بعيدًا عن أهل العلم والفقه.
وكان الشيخ حسن البنا يصرِّح بإعجابه بابن صفدر، ويُشير إلى سَيْره على منهاجه، فيقول: «بنَى مصطفى كامل، وفريد، ومِنْ قَبلهما: جمال الدين، والشيخ محمد عبده نهضة مصر، ولو سارت في طريقها هذا ولم تنحرف عنه؛ لوصلت إلى بغيتها، أو على الأقل لتقدَّمت ولم تتقهقر، وكسبت ولم تخسر»([2]).
ليس غرضي هنا البحث الموثق والموسع في هذه القضية، لهذا فإنني سأكتفي بشهادة علمية ثمينة عن ارتباط الحركة الإسلامية بفكر ابن صفدر، ومباينتها للفقه وأهله، وقيامها بمثقفين لا يمتُّون إلى العلم الشرعي بصلة. هذه الشهادة سطَّرها الدكتور طه جابر العلواني، وهو من الشخصيات العالمية للحركة الإسلامية، وأحد مؤسسي «المعهد العالمي للفكر الإسلامي» في الولايات المتحدة، وأبرز قياداته لسنوات طويلة.
ذكر العلوانيُّ في كتابه: «مقاصد الشريعة» أن قيادة الحركةَ الإصلاحية المعاصرة آلت إلى جمال الدين الأفغاني، واجتهد تلميذه محمد عبده في نشرها في مصر، وإدخالها في الأزهر، فووجه برفض الفقهاء، ثم قال: «ولما آل الأمر إلى قيادة الحركة الإسلامية المعاصرة التي تبنَّت تراث الإصلاحيين، وأضافت إليه، وقامت بتفعيله، وقررَّت تجاوز (الفقيه العالم التقليدي)([3]) ، وإذا بمَشْعِل الدعوة الإسلامية المعاصرة يحمله مدرِّسٌ من خريجي دار العلوم في مصر (وهي التي أريد لها أن تكون بديلًا عن الأزهر) هو الأستاذ حسن البنا رحمه الله، ويحمله في القارة الهندية كاتب معروف هو الأستاذ المودودي رحمه الله، متجاوزين بذلك العلماءَ والفقهاءَ، والأزهر الرسمي في القاهرة، ودار الفتوى والمفتين، وندوة العلماء في الهند، وأبا الكلام آزاد، وعلماء حيدر آباد، وفي إيران - وإن اختلف الحال - قاد حركات الإصلاح علماء وفقهاء، ولكنهم ميزوا أنفسهم عن التقليديين الذين كثيرًا ما أطلقوا عليهم (فقهاء الحيض والطهارة والنفاس)، وسوى ذلك من ألقاب للتهوين من شأنهم، ولكيلا تقف قضية المشروعية عقبة أمام الدعاة المفكرين (أعني مشروعية الحديث عن الإسلام أو النطق باسمه) فقد أكثروا الحديث في أدبياتهم عن نفي مؤسسة (رجال الدين)، ومارسوا التوكيد المستمرَّ على أن طبيعة الإسلام لا تتقبل فكرة (اكليروس) أو (رجال دين)، فكل مؤمن هو رجل دين، وكل ملتزم بالإسلام هو رجل دين([4])، وأما العلماء والمشايخ والمفتون فهم موظفون رسميُّون، وأناس مهنيون متخصصون في قضايا محددة، ولهم تخصصات يحتاجها الناس في نكاحهم وطلاقهم ومواريثهم ووفياتهم وتقاضيهم وسواها، وهم ليسوا حجة على أحد، ويمكن لأي أحد أن يدرس ما درسوه؛ فيفتي، ويتحدث عن الإسلام ما يريد، فليس شيء يمكن أن يحتكره العلماء، أو يحال بين الناس وبين تعاطيه.
وبالفعل سارت الحركات الإسلامية المعاصرة بعيدًا عن العلماء والمشايخ، وبقيت تنظر إليهم نظرةً فيها الكثيرُ من الحذر والتوجُّس حتى المشايخ والعلماء في (الحركات الإسلامية الإصلاحية) المعاصرة، خاصة في أطوار النشأة والتكوين؛ يعدون بعدد الأصابع» ([5]).
هكذا يخبرنا العلوانيُّ([6]) بأنَّ حسن البنا أحيا دعوة ابن صفدر، وسار بها بعيدًا عن ركب العلماء والفقهاء.
هذا البُعد عن أهل العلم، والتأثر بالأفكار الشرقية والغربية التي كانت تعجُّ بها مصر، إضافة إلى صغر سنِّ حسن البنا، وضعف تعليمه، وارتباطه بالتصوف نشأة وتربية وممارسة؛ هذه الأمور مجتمعة هيأت الأسباب الكافية لتبلور التفسير السياسي للإسلام عنده تصورًا وتصرفًا، خاصة بعد إلغاء السلطنة العثمانية (1922م)، وظهور دعوات إلى إعادة «منصب الخلافة» وإن كان رمزيًّا، وشعور كثير من المسلمين بفراغ سياسي كبير، ففي تلك البيئة، وبعد تلك النازلة الكبيرة بستِّ سنوات أسَّس حسن البنا حركة الإخوان المسلمون (1928م)، وعمره يومها (22) سنة فقط!
سنفرد - بعد صفحات - مبحثا عن التفسير السياسي للدين عند حسن البنا ثم عند المودودي وسيد قطب، ونستكشف بذلك كيف استمر هذا الفكر في الانتشار والتطور بعد الأول، واكتمل ونضج على يد الثاني والثالث، فكثرت حملته والداعون إليه، وترسّخ في أذهان أجيال من الشباب المسلم في مصر وسائر البلاد، حتى تحوّل إلى نظرية كاملة في تفسير الإسلام، وانتهى بأدبيّات الحركات الإسلامية المعاصرة إلى تقريرٍ - صريحٍ أو ضمنيٍّ، كليٍّ أو جزئيٍّ – مفادُه إجمالًا : أن لا معنى للصلاة والصوم وسائر العبادات إذا لم يحقّق المسلم الغايةَ الحقيقيّةَ التي من أجلها خلقه الله تعالى وهي: «تنفيذ منهاج الله لإقامة النظام الاجتماعي وعمارة الأرض»، وهذه هي العبادة الحقيقية المقصودة لذاتها، أما الصلاة والصوم والذكر والدعاء وسائر العبادات فتمارين رياضيّة حتّى يتهيّأَ الإنسانُ للقيام بتلك الوظيفة الكبرى!
هذا هو المقصود بـ: «التفسير السياسي للإسلام»؛ حيث يجعل هذا «التفسير» قضية السلطة السياسية والحكم والاجتماع والاقتصاد وعمارة الأرض وإقامة العدل بين الناس في شؤون الحياة الدنيوية؛ هي القضية المركزية للدِّين كلِّه، وهي الغاية والهدف من النبوة والرسالة والعبادة والشريعة، بل حتَّى البعث والنشور والجنة والنَّار!
ولمَّا كانت الغاية من «السياسة» هي استصلاح الخلق وعمارة الأرض وإقامة العدل بما يحقِّق الخير والأمن والاستقرار والرفاهية للمجتمع الإنساني، والسلطةُ والحكومة ومؤسسات الدولة إنما هي وسائل لتحقيق هذه الغاية؛ لهذا فإن «التفسير السياسي للإسلام» لا يتعلَّق بالسياسة من جهة كونها وسائل وآليات وأساليب، وإنما من جهة مقاصدها وغاياتها التي تتلخَّص في تحقيق تلك المنافع للمجتمع البشري. ومن هنا فإنَّ المقصودَ بهذا المصطلح هو «التفسير النفعي للدين»، ولا بأس من استعمال هذا اللَّفظ أو ذاك، مع ضرورة ملاحظة أن بعض الحركيين قد توجَّهوا الآن إلى ترك «العمل السياسي»، والاهتمام بـ: «العمل الاجتماعي» لكونه يؤدِّي إلى نفس الغاية من الدِّين - في نظرهم -، كما يجنِّبهم إشكالية الاصطدام مع الأنظمة الحاكمة، ومن هنا ظهر مصطلح: «الإسلام الاجتماعي»، وهو موازٍ لمصطلح: «الإسلام السياسي»، وليس بينهما - في حقيقة الأمر - تعارضٌ ولا تناقضٌ
الهوامش:
([2]) «مذكرات الدعوة والداعية» لحسن البنا ص: 182. ومصطفى كامل (ت: 1326هـ/1908م) زعيم سياسي وكاتب مصري، أسس الحزب الوطني وجريدة اللواء. ومحمد فريد بك (ت: 1338هـ/1919م) كان صديقًا لمصطفى كامل وشاركه في تأسيس الحزب الوطني.
([3]) ما بين القوسين – هنا وفي المواضع التالية – من كلام العلواني نفسه كما ورد في كتابه الذي انقل عنه.
([4]) هذه مغالطة مكشوفة، فسياق الكلام عن (علماء الدين)، وكون المسلم (رجل دين) لا يعطيه صفة العالم والفقيه، ولا صلاحياتهما، وقد ثبت بالقرآن والسنة والإجماع التفريق بين العلماء والفقهاء والقضاة الذين يُرجع إليهم في أحكام الشريعة وبين غيرهم من عامة المسلمين الذي لا يجوز الخوض في دين الله بجهلهم وأهوائهم وإن كانوا علماء وخبراء ومثقفين في علوم غير شرعية، يحترمون ويقدرون في مجال تخصصهم وعملهم ، وكلّ ميسر لما خلق له.
([5]) «مقاصد الشريعة» دار الهادي، بيروت: 1421، ص 67-71.
([6]) وهو خبير بالحركة الإسلامية، وابن وفيٌّ لها، ولد في الفلوجة بالعراق (1935م)، وانتخب عضوًا في اللجنة المركزية للحزب الإسلامي العراقي للإخوان المسلمون في العراق، في مؤتمره الأول التأسيسي سنة (1960م). توفي يوم الجمعة 24/5/1437هـ الموافق لـ : 4/3/2016م.