قصة التفسير السياسي للإسلام - كيف غرست النبتة الأولى


كان العالم الإسلامي يعاني في أواخر الدولة العثمانية من أشدِّ حالات الجهل والتخلف والضعف والانحطاط، وفي إزاء ذلك كانت أوروبا قد قطعت أشواطًا كبيرة في طريق العلم والمعرفة والتقدم المادي، والعمران المدني، والإصلاح السياسي والاجتماعي، وبناء الدولة الحديثة. ومن موقع الضعيف المغلوب، وبنفسية المنهزم، وانبهار الجاهل المتخلِّف؛ فتح المسلمون أعينهم على «العالم الجديد» بصورته المتزيِّنة التي تخيِّل للمرء أن أهله قادرون عليه بعلمهم وذكائهم، وعملهم وجدِّهم، وعلو همتهم، وعدالة نظامهم السياسي والاجتماعي! لقد جاء تأثُّرُ الكُتَّابِ والمفكرين الإسلاميين المعاصرين بالأفكار والنظريات الغربيَّة نتيجةً طبيعيَّةً للاحتكاك بالحضارة الغربية التي فرضتْ وجودها وتأثيرها على الفكر العالمي بحكم قوَّتها المادية، ونهضتها الصناعية، وتوسعها الاستعماري، وهو تأثُّرٌ نجده عند كلِّ من قلَّ علمُه، وضعف يقينُه، ورقَّ دينُه، وتلبَّس بالبدع الاعتقادية والعملية؛ فانبهر بالحضارة الغربية وإنجازاتها المادية.

ولن نتكلَّم هنا عن أولئك الذين دفعتهم الفتنة بالغرب إلى الانسلاخ من دين الإسلام بالكليَّة، وإنما نقصد أولئك الذين تمسَّكوا بالإسلام - في الجملة - ولكنهم تأثروا بالفكر الغربي، وجذبتهم الحضارة الغربية بظاهرها وبهرجها، فاستحسنوا قليلًا أو كثيرًا من مبادئها ونظمها، وأعجبوا بسياستها وتنظيماتها وقوتها، فقالوا: وَا أَسَفاه! المسلمون أحقُّ بهذا بل هم أهلُها! فلا بدَّ أن يأخذوا بأسبابها كما أخذ أولئك بأسبابها، ويتنافسوها كما تنافسوها، فإن استطاعوا أن ينالوها كانوا خيرًا من أولئك، وأعظم حظًّا وتوفيقًا؛ لما هم عليه من الدِّين الحقِّ، والشريعة السمحة.

أعلام هذه الطائفة كثيرون، أشهرهم: رفاعة رافع الطهطاوي (ت: 1290هـ/1873م)، خير الدين التونسي (ت: 1307هـ/1890م)، ومحمد بن صفدر الإيراني (ت: 1315هـ/1897م)، وسيد أحمد خان الهنديُّ (ت: 1315هـ/1898م)، وعبد الرحمن الكواكبي (ت: 1320هـ/1902م)، ومحمد عبدُه (ت: 1323هـ/1905م)، ومحمد إقبال (ت: 1357هـ/1938م)، ومحمد الطاهر بن عاشور التونسي (ت: 1393هـ/1973م)، ومالك بن نبي (ت: 1393هـ/1973م)، وعلال الفاسي (ت: 1394هـ/1974م) في آخرين يمثِّلون رموز «الحداثة والعصرانية والتنوير» في العصر الحديث، على تفاوتٍ كبيرٍ بينهم في مراتب الهدى والضلال. 

الإمام الأكبر لهذه الفرقة هو: محمد بن صفدر الأسد آبادي الإيراني المتلقِّب بجمال الدين الأفغاني([1])، وكان وثيق الصلة بالفلسفة والفكر الغربي والحركات السياسية والجمعيات الماسونية التي تمثلُّ في جملتها الفلسفة الغربية في الموقف من الدِّين. لدينا شهادة مهمة عن التكوين العلمي والفكري لابن صفدر يقدِّمها الشيخ محمد رشيد رضا فيقول - وهو الخبير به عن طريق شيخه: محمد عبده -: «تلقَّى السيد جمال الدين الفلسفة العربية القديمة في بلاده، ثم تلقَّى شيئًا من الفلسفة الأوروبية والرياضيات على الطرقية الحديثة في الهند، وكان قد تصوَّف قبل ذلك علمًا وعملًا، فكانت فلسفته مزيجًا من التصوف والفلسفة القديمة والحديثة، أي كان له رأي خاصٌّ في العلوم العقلية، وعلم النفس والأخلاق، وعلم الوجود والتكوين، يستدلُّ عليه، ويفنِّدُ رأي من يخالفه، ولا معنى للفيلسوف إلا هذا. مذهب فلاسفة الإفرنج في الوجود قريبٌ جدًّا من مذهب الصوفية القائلين بالوحدة، وكان السيد يميل إلى هذا المذهب، كما أشار إليه الأستاذ الإمام في ترجمته»([2]).

بشهادة أحد الدارسين لفكر ابن صفدر فإنَّه أبرز من كشف في «الاعتقاد الديني» عن استجابته لآمِرِ التمدُّن والتقدُّم، وعن قدرته على تحقيق الكمال للنوع الإنساني من حيثُ أنَّ هذا الكمال نفسه هو الغاية القصوى للتمدُّن. بتعبير آخر: وطَّن جمال الدين نفسه على التدليل على أنَّ الفاعليَّة الأصلية لعقيدة التوحيد هي فاعلية اجتماعية تمدنيَّة. وقد عرض أفكاره حول هذه الوظيفة في رسالته الشهيرة في «الردِّ على الدهريِّين».

إنَّ الدِّين - في تقدير الأفغاني - قد أتاح للبشر بناءَ «قصرٍ من السعادة مسدَّس الشَّكل» أساسه مجموعة من العقائد والخصال، تقيم الاجتماع البشري على دعائم ثابتة، وتضمن للمدنيَّة إصلاحًا مستمرًّا، وللبشر أصولًا من المحبَّة والعدالة تتحقق معها سعادتهم. ولقد ألمع جمال الدين الأفغاني إلى مظاهر متعددة يبدو فيها الدين - بحقٍّ - دعامة أساسية للبناء الاجتماعي والعمراني، لكن أعظمَ هذه المظاهر التي وقف عندها وأبان عن خطرها من هذا الوجه هي تلك التي تخصُّ إنكار المبدأين الأساسيَّيْن اللذين يقوم عليهما كل اعتقد دينيٍّ: الألوهية من ناحية، والبعث أو الحشر من ناحية ثانية.

إن جحود الدهريِّين لهذين الركنين يجرُّ معه بالضرورة: «إفساد الهيئة الاجتماعية وتزعزع أركان المدنيَّة»([3])، لهذا لم يجد ابن صفدر حرجًا في الانتساب إلى الجمعيات الماسونية - تأييدًا للشعارات التي كانت ترفعها: الحرية، الإخاء، المساواة -، ولا في قبول الدعوة إلى وحدة الأديان، بل كان من أشهر دعاتها([4])، فهو ينظر إلى منفعة الدين وأثره الاجتماعي ولا يهمُّه أحقيَّة الدين، وصحة المعتقد، لهذا نجده يقول: «لا تَرى في الأديان الثلاثة ما يُخالفُ نفعَ المجموع البشريِّ، بل بالعكس تحضُّ على أن يعمل الخيرَ المطلق مع أخيه وقريبه، وتحظرُ عليه عملَ الشرِّ مع أيٍّ كان»([5])، ويقول: «نجد الأديان الثلاثة، الموسوية، والعيسوية، والمحمدية؛ على تمام الاتفاق في المبدإِ والغاية، إذا نقص في الواحدة شيء من أوامر الخير المطلق؛ استكملته الثانية... لقد لاح لي بارق أمل كبير: أن تتحد أهل الأديان الثلاثة، مثل ما اتحدت الأديان في جوهرها وأصلها وغايتها، وبهذا الاتحاد يكون البشر قد خطو نحو السلام خطوة كبيرة في هذه الحياة القصيرة»([6])، وقال أيضًا: «إن الأديان الثلاثة كلها أساسها واحدٌ، وإنما يوسِّع شقة الخلاف بينها اتِّجار رؤساء الأديان بها»([7]).

لقد عمل ابن صفدر - في نشاط كبير على مستوى العالم الإسلامي - على زعزعة أصول الاعتقاد، وثوابت الدين، وأوهم المسلمين أن مشكلتهم في التخلف الماديِّ، وأن مخرجهم منها في الجري وراء سنن الغرب، وكان يسعى في تحقيق هذه الفكرة الماسونية من خلال العمل السياسي، والتهييج الثوري ؛كما قال أنور الجندي: «آمَنَ جمال الدين بأنَّ الثورة السياسية هي الوسيلةُ المثلى لتحقيق دعوته»، وقال أبو ريَّة: «اتَّخذ جمال الدين طوال حياته لتحقيق غاياته: وسائلَ الثَّورة السياسية»([8]).

هكذا غرست النبتة الأولى للتفسير السياسي للإسلام.

الهوامش:

([1]) أثبتَ إيرانيَّته ابنُ أخته: لطفُ الله أسد آبادي في كتابه «جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالأفغاني» نشره بالفارسية عام 1929، ثم ترجم إلى العربية وصدر في القاهرة عام 1957. وكان ابن صفدر شيعيًّا، درس في النجف أربع سنوات، وترجم له الشيعة في كتبهم، منهم: محسن الأمين في «أعيان الشيعة» 4/210، وعلي الوردي في «ملامح اجتماعية من تاريخ العراق الحديث» 3/305. وراجع عنه ـ أيضًا ـ: «الأفغاني صفحات مجهولة من حياته: دراسات ووثائق» للدكتور محمد الحداد، دار النبوغ، بيروت: 1997م.

([2]) «تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده: 1266-1323/1849-1905»، مطبعة المنار، القاهرة: 1350، 1/79.

([3]) «أسس التقدُّم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث» للدكتور فهمي جدعان، دار الشروق، الطبعة الثالثة: 1988م، ص: 199 وما بعدها. وكلام الأفغاني في رسالته: «الرد على الدهريين» الفصل الثاني: بيان المفاسد التي جلبها المادِّيُّون على نظام المدنيَّة، ومظاهر الماديين ومقاصدهم، وما أفاده الدين من العقائد والخصال. وفي أول الفصل الثالث. وما أشبه كلام الأفغانيِّ هذا بقول ابن رشد الحفيد ـ الذي نقلناه فيما سبق ـ بأنَّ المجاهرة بتكذيب شرائع الأنبياء التي فيها إصلاح الجمهور وحثِّهم على الفضائل هو مسلك الزنادقة الذين يريدون إفساد النوع البشريِّ!

([4]) تجد الأدلة على ماسونية الأفغاني ودعوته إلى وحدة الأديان في كتاب: «دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام» لمصطفى فوزي بن عبد اللطيف غزال، دار طيبة، الرياض: 1403.

([5]) «الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني» دراسة وتحقيق: محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت: 1979م، ص: 69. وانظر: «دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام» ص: 241 وما بعدها.

([6]) «الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني»، تحقيق: محمد عمارة، القاهرة: 1968، ص: 290-295. وقد بيَّن ابن صفدر أنَّه خطَّط للعمل لتحقيق هذه الفكرة، لكنه خشي أن يقال عنه: «الكافر الجاحد المارق...». وراجع الرد عليه وبيان أثر دعوته في أتباعه في «دعوة التقريب بين الأديان» للدكتور أحمد بن عبد الرحمن القاضي، دار ابن الجوزي، الدمام: 1422هـ، 1/398.

([7]) «الفكر الإسلامي والتطور» للدكتور فتحي عثمان، ص: 246.

([8]) نقل الكلمتين مصطفى غزال في: «دعوة الأفغاني في ميزان الإسلام» ص 370 و371.

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©
تنفيذ مؤسسة المفهرس لتقنية المعلومات