لقد عُنيَ شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728) رحمه الله عنايةً بالغةً بفضح هذه المقولة الفلسفية الباطنية، ونبَّه على خطورتها ومفاسدها من خلال ربطها بجذورها ونتائجها، وله في ذلك كلام كثيرٌ نافعٌ([1])، نذكر طرفًا منه:
قال رحمه الله: «للناس في مقصود العبادات مذاهبُ: منهم من يقول: المقصود بها تهذيب أخلاق النفوس، وتعديلها؛ لتستعِدَّ بذلك للعلم، وليست هي مقصودة في نفسها، ويجعلونها من قسم الأخلاق، وهذا قول متفلسفة اليونان، وقول من اتَّبعهم من الملاحدة والإسماعيلية وغيرهم من المتفلسفة الإسلاميين كالفارابي (ت: 339)، وابن سينا (ت: 428)، وغيرهما، ومن سلك طريقهم من متكلِّمٍ، ومتصوِّفٍ، ومتفقِّهٍ، كما يوجد مثل ذلك في كتب أبي حامد [العزَّاليِّ (ت: 505)]، والسُّهْرَوَرْديِّ المقتول (ت: 632)، وابن رشد الحفيد (ت: 595)، وابن عربي (ت: 638)، وابن سبعين (ت: 669)، لكنْ أبو حامد يختلف كلامه؛ تارةً يوافقهم، وتارةً يخالفهم. وهذا القَدْرُ فعله ابن سينا وأمثاله ممن رام الجمع بين ما جاءت به الأنبياءُ وبين فلسفة المشَّائين: أرسطو، وأمثاله»([2]).
قال رحمه الله: «معلومٌ أنَّ قول حُذَّاق الفلاسفة مثل الفارابيِّ وابنِ سينا وغيرهما ـ وهو قولُ كلِّ حاذقٍ وفاضلٍ من المتكلِّمين في القَدْرِ الذي يُخالِف فيه أهلَ الحديث([3]) ـ: أَنَّ الرسل مقصدهم صلاح عموم الخلق، وعموم الخلق لا يمكنهم فهم هذه الحقائق الباطنة، فخاطبوهم بضرب الأمثال، لينتفعوا بذلك، وأظهروا الحقائق العقلية في القوالب الحسية؛ فتضمن خطابهم عن الله وعن اليوم الآخر من التخييل والتمثيل للمعقول بصورة المحسوس ما ينتفع به عموم الناس في أمر الإيمان بالله وبالمعاد، وذلك يُقَدِّرُ في النفوس من عظمة الله وعظمة اليوم الآخر ما يحضُّ النفوس على عبادة الله وعلى الرجاء والخوف؛ فينتفعون بذلك، وينالون السعادة بحسب إمكانهم واستعدادهم، إذ هذا الذي فعلته الرسل هو غاية الإمكان في كشف الحقائق لعموم النوع البشري، ومقصود الرسل: حفظ النوع البشري، وإقامة مصلحة معاشه ومعاده»([4]).
وبيَّن أن للفلاسفة مسلكين في موقفهم من النبوة: فالفلاسفة المتأوِّلون وهم: «خيار الفلاسفة، وهم الذين يعظِّمون الرسول عن أن يكذب للمصلحة، ولكن هؤلاء وقعوا في نظير ما فروا منه، نسبونه إلى التلبيس والتعمية وإضلال الخلق، بل إلى أن يظهر الباطل ويكتم الحق. وابن سينا وأمثاله لما عرفوا أنَّ كلام الرسول لا يحتمل هذه التأويلات الفلسفية، بل قد عرفوا أنه أراد مفهوم الخطاب سلك مسلك التخييل، وقال: إنه خاطب الجمهور بما يخيل إليهم؛ مع علمه أنَّ الحقَّ في نفس الأمر ليس كذلك. فهؤلاء يقولون: إنَّ الرسلَ كَذَبُوا للمصلحة. وهذا طريق ابن رشد الحفيد([5])، وأمثاله من الباطنية، فالذين عظموا الرسل من هؤلاء عن الكذب نسبوهم إلى التلبيس والإضلال، والذين أقرُّوا بأنهم بيَّنوا الحقَّ قالوا: إنهم كذبوا للمصلحة. وأما أهل العلم والإيمان فمتفقون على أن الرسل لم يقولوا إلا الحقَّ، وأنهم بيَّنوه مع علمهم بأنهم أعلم الخلق بالحقِّ، فهم الصادقون المصدوقون، علموا الحق وبينوه، فمن قال: إنهم كذبوا للمصلحة فهو من إخوان المكذِّبين للرسل، لكن هذا لما رأى ما عملوا من الخير والعدل في العالم لم يُمكِنه أن يقول: كَذَبوا لطلب العلوِّ والفساد. بل قال: كذبوا لمصلحة الخلق. كما يُحكى عن ابن التومرت وأمثاله. ولهذا كان هؤلاء لا يفرِّقون بين النبيِّ والساحر إلا من جهة حُسْنِ القصد، فإنَّ النبيَّ يقصدُ الخير والساحرَ يقصدُ الشرَّ، وإلا فلكلٍّ منهما خوارق هي عندهم قوى نفسانية، وكلاهما عندهم يكذب، لكن الساحر يكذب للعلو والفساد، والنبي عندهم يكذب للمصلحة، إذ لم يمكنه إقامة العدل فيهم إلا بنوع من الكذب. والذين علموا أن النبوة تناقض الكذب على الله وأنَّ النبيَّ لا يكون إلا صادقًا من هؤلاء قالوا: إنهم لم يبيِّنوا الحقَّ. ولو أنهم قالوا: سكتوا عن بيانه لكان أقلَّ إلحادًا، لكن قالوا: إنهم أخبروا بما يظهر منه للناس الباطل ولم يبيِّنوا لهم الحقَّ. فعندهم أنهم جمعوا بين شيئين: بين كتمان حقٍّ لم يبيِّنوه، وبين إظهار ما يدلُّ على الباطل، وإن كانوا لم يقصدوا الباطلَ، فجعلوا كلامهم من جنس المعاريض التي يعني بها المتكلِّم معنًى صحيحًا، لكن لا يفهم المستمع منها إلا الباطلَ. وإذا قالوا: قصدوا التعريضَ كان أقلَّ إلحادًا ممن قال: إنهم قصدوا الكذب»([6]).
وقال ابن تيمية ـ أيضًا ـ في سياق نقضه لقول الجهمية والفلاسفة بأن كمال النفس في مجرَّد علمها بالله وإن لم يقترن به حبٌّ لله ولا عبادةٌ له ـ: «فهم إنَّما جعلوا العبادات لأجل إصلاح الأخلاق، بناءً على أنَّ المقصود بالقصد الأول: إنَّما هو تكميل النفس بهذا العلم، وأنَّ تهذيبَ الأخلاق ورياضةَ النفس تُعِدُّ النفسَ لذلك، والعباداتُ تُعين على ذلك. فإذا بُيِّن فسادُ الأصل الذي بنوا عليه كلامهم تبيَّن فسادُه من أصله([7]).
وأيضًا: فقد علم بالاضطرار من النقل المتواتر والتجارب المعروفة أن الأعمال الصالحة توجب أمورًا منفصلة من الخيرات في الدنيا، وأن الأعمال الفاسدة توجب نقيض ذلك، وأن الله تعالى عذَّب أهل الشرك والفواحش والظلم كقوم عاد وثمود ولوط وأهل مدين وفرعون بالعذاب المنفصلِ المشاهَدِ الخارجِ عن نفوسهم، وأكرم أهل العدل والصلاح بالكرامات الموجودة في المشاهدة، وهذا أمر تقر به جميع الأمم، فكيف يقال: إن العبادات والطاعات ليس مقصودها إلا ما يوجد في النفس من صلاح الخلق؟!
وأيضًا: فإنَّ الله تعالى فاعل مختار يفعل بمشيئته وقدرته، وأنه يجيب دعاء عباده المؤمنين، وأنه يخرق العادات بأمور خارجة عن القوى الطبيعية والنفسانية المعلومة، وهذا مما يبيِّن تأثير العبادات والطاعات في الخارج.
ومما يبيِّن فسادَ قولهم: أنهم يزعمون أن المقصود بالرسالة إنما هو: إقامة عدل الدنيا، وأن الرسل لم تبيِّن للناس حقائق الأمور، بل أظهرت خلاف ما أبطنت بناء على أن الحقَّ في نفس الأمر هو قول الفلاسفة. وهذا إذا ظهر للناس أنكرته الفطر، وكذَّب به الناس، ولم يبق عندهم إلهٌ يُخشى ويُعبد، ولا رب يُصلَّى له ويُسجد. قالوا: فالرسل ما كان يمكنهم إظهار الحقِّ ـ الذي هو قولنا ـ فأظهرت للناس من التمثيلات ما ينتفعون به، وكانت في الباطن تعتقد ما تعتقده الفلاسفة. ولهذا يقولون: إنَّ الخواصَ تسقط عنهم العبادات، كما يقول ذلك من يقوله من القرامطة الباطنية والفلاسفة وملاحدة المتصوفة وغيرهم، قالوا: لأن المقصود العلمُ والمعرفةُ، فإذا حصل المقصودُ لم يبقَ في العبادة فائدةٌ. ويقولون: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُسرُّ إلى خواصِّ أصحابه ما يوافق قولهم. ومن عرفَ حالَ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه معه؛ علم بالاضطرار أنَّ هؤلاء مخالفون له، مناقضون، مفترون عليه، وأنهم من شرار المنافقين، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وخواصَّ أصحابه كانوا من أعبد الناس لله تعالى، وأعظمهم قيامًا([8]) بأداء الواجبات وترك المحرمات، وكان خواصُّ أصحابه من أعظم الناس تقريرًا لما بعث به من الإخبار عن الله بأسمائه وصفاته وعن ملائكته وعن اليوم الآخر، وغير ذلك من أخباره، ومن أعظم الناس تقريرًا لما بعث به من الأمر والنهي، فكان ما يُبطنونه من العلم والحال موافقًا لما يظهرونه من القول والعمل، ولم يكونوا يُبطنون ما يناقض ظاهرهم، ولا كانوا يعتقدون مذهب أهل النفي، بل قول نفاة الصفات إنَّما حدث في الأمة بعد انقضاء عصر الصحابة وكبار التابعين، وإلا فلم يكن أحد يتكلم في زمن الصحابة بشيء من أقوال الجهمية نفاة الصفات، فكيف بأقوال هؤلاء الملاحدة الذين نَفيُ الصفات بعضُ إلحادهم؟!»([9]).
وقال أيضًا: «والفلاسفةُ يُثبتون شريعةً عقلية بآرائهم، كما يثبتون معادًا عقليًّا بآرائهم، إذ الجزاء في المعاد مبنيٌّ على حسن الأفعال وقبحها، والأمر بها والنهي عنها، زيادةً على ما في ذلك من صلاح الدنيا. ولهذا أوجب الفلاسفةُ النبوةَ لصلاح العباد في الدنيا بقانون العدل المشروع لهم، ثم إنهم مع ذلك عَمُوا ـ أو من عَمِيَ منهم ـ عمَّا في الشريعة من مصالح العباد، وإن كانوا يقولون: الشريعة قصدَتْ ذلك أيضًا للعامة. لكن آفتهم من دعوى الاختصاص بما يتسلَّون به في الباطن من أخبار الرسل وأوامرها، فهم في الحقيقة يوجبون اتِّباع الشرائع على الجمهور، ويدَّعون أنهم أجلُّ من ذلك، وهذا لما بَهَرَهم من منفعة الشرائع وحاجة العباد إليها، ثم عَمُوا مع ذلك عن حاجتهم هم بخصوصهم إليها، ووجود منفعتهم بكمالها فيها، فظنوا أنَّها لا تقوم بجميع مطالبهم وحاجاتهم ومصالحهم من العلم والعمل، فابتدعوا، وبدَّلوا، وحرَّفوا، واعتدَوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله» ([10]).
الهوامش:
([1]) راجع على سبيل المثال: «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» 6/10، «مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية» 1/120، 4/98، 5/32، 16/440، 19/157، «درء تعارض العقل والنقل» 1/8، 1/203، 3/269، 5/234.
([3]) مراد ابن تيمية أن بعض المتكلمين تأثروا بنظرية الفلاسفة في حقيقة ما جاءت به النبوة، وذلك لمخالفتهم طريقة أهل السنة والحديث، فأصابهم من ذلك ما أصابهم، مع أنَّهم لا يوافقون الفلاسفة والباطنية في القول بكذب الرسول وإبطال الشرائع ونفي المعاد الجسماني وحقيقة الجنة والنار. وقد برَّأ ابنُ تيمية أبا حامدٍ الغزاليَّ (ت: 505) من موافقة الفلاسفة في اعتقادهم هذا، لكنَّه كشف عن تأثره ببعض أفكارهم، من ذلك أنه: «يجعل علم الفقه ليس غايته إلا مصلحة الدنيا»، وذكر في النبوة ما يُشبه كلام الفلاسفة فيها. انظر: «مجموع الفتاوى» 17/120. وهذه الإلماعة الدقيقة من ابن تيمية يصحُّ تنزيلها اليوم على كثير من المنتسبين إلى أهل السنة ممَّن تأثروا بالمنهج السياسي والنفعي في تفسير الإسلام.
([4]) «الرد على المنطقيين» 281.
([5]) هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رُشد القرطبي (ت: 595)، الفقيه القاضي، والطبيب الفيلسوف، صاحب: «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، وقد قرَّر في كتابه: «تهافت التهافت» مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت: 2008، ص: 553-559؛ أنَّ الفلاسفة يرون أنَّ البعث والحياة الآخرة: «تنحو نحو تدبير الناس الذي به وجود الإنسان، بما هو إنسان، وبلوغه سعادته الخاصة به، وذلك أنها ضرورية في وجود الفضائل الخلقية للإنسان»، لهذا يرى الفلاسفةُ ـ فيما جاءت به الشرائع من البعث والحياة الآخرة ـ: «أنه لا ينبغي أن يُتعرَّض بقولٍ مثبِتٍ أو مبطِل في مبادئها العامة... لأن الشرائع تقصد تعليم الجمهور عامةً...»، وإذا كان هذا شأن الشرائع في إصلاح الجمهور وحثِّهم على الأعمال الفاضلة؛ فإنَّ: «الذين شكُّو في هذه الأشياء، وتعرضوا لذلك، وأفصحوا به إنما هم الذين يقصدون إبطال الشرائع وإبطال الفضائل، وهم الزنادقة الذين يرون أن لا غاية للإنسان إلا التمتع باللذات».
([6]) «مجموع الفتاوى» 19/157-158.
([7]) وإذا بُيِّنَ فساد الأصل الذي بنى عليه الإسلاميُّون الحركيون في هذا العصر منهجهم ـ وهو التفسير السياسي للإسلام ـ؛ تبيَّن فسادُه مِنْ أصلِه.
([8]) في الطبعتين: «إتيانًا»، ولعل الصواب ما أثبته.
([9]) «الصفدية» طبعة جامعة الإمام: 2/237، وطبعة أضواء السلف، الرياض: 493.