مذهب الباطنية والزنادقة من غلاة الفلاسفة وغلاة الصوفية


مذهب الغلاة من الفلاسفة والصوفية أنَّ الرُّسل عليهم الصلاة والسلام أمروا بالعبادات، وجاؤوا بالشرائع، لغاية إصلاح أخلاق الناس، وإقامة العدل بينهم. لهذا يصرِّح الملاحدة منهم بأن لا حقيقة لما أخبروا به من البعث والنشور والجنَّة والنار، وإنما هو تخييل وتمثيل قصدوا به الترغيب والترهيب. وهم مختلفون في الحكمة المقصودة ـ وهي الغاية ـ من التكاليف الشرعية، فقال بعضهم: الغايةُ: المعرفةُ. وقال آخرون: الغايةُ: رياضةُ النفس وتهذيبها وحملها على فضائل الأخلاق. وقال آخرون: الغايةُ: إقامةُ العدل. ومهما اختلفت عباراتهم، وتنوعت تخريجاتهم؛ فالفكرة الأساسية عندهم واحدة، وهي أنَّ العبادة غير مقصودة لذاتها، وإنما هي وسيلة إلى غاية أخرى، وهي غاية دنيوية عاجلة، سواء كانت معنوية كتهذيب الأخلاق، أو مادية كإقامة العدل.

أبرزُ من تكلَّم بهذا من الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام: الفيلسوف والطبيب الشهير ابن سينا (ت: 428)([1])، فزعم أن غاية سعادة الإنسان هي المعرفة، لهذا أثبت المعاد الروحي، وأنكر المعاد الجسماني وحقائق الجنة والنار، وزعم أن النصوص التي جاءت في إثبات حقائق الآخرة هي رموز وإشارات، قال بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأنه يخاطب قومًا لا يستطيعون أن يدركوا هذه الحقائق، فقرَّر لهم أمر المعاد على «أوجه يتصورون كيفيَّته، وتسكن إليه نفوسهم مما يفهمونه ويتصورونه»([2]). لهذا فإن موضوع «النبوَّة» متَّصل عند ابن سينا بالفلسفة العمليَّة، لذلك نجده يأتي مضمَّنًا في تقسيمات ابن سينا للعلوم العمليَّة، في إطار العلم الخاصِّ بالاجتماع المدنيِّ أو المديني، والذي هو علم السياسة([3]). فلا عجب أن نجد ابن سينا ـ ومن كان على نهجه ـ «يعظمون شرائع الأنبياء العملية، أما العلمية؛ فعندهم العلمُ في ذلك بما يقوله الفلاسفة، وأما الأنبياء فلا يستفاد من جهتهم علم ذلك»([4]).

بيَّن ابن سينا أنه لا بدَّ في وجود الإنسان وبقائه من مشاركة، ولا تتم المشاركة إلا بمعاملة، ولا بدَّ في المعاملة من سنَّة وعدل، ولا بدَّ للسنة والعدل من سانٍّ ومعدِّل، وهكذا وصل إلى إثبات الحاجة إلى النبوة حتى: «يبقى نوع الناس»، ثم شرح ما يجب على النبي بيانه من اعتقاد في الله بالتوحيد والتنزيه ما يمنعهم من الوقوع في التنازع والانصراف إلى «المباحثات والمقايسات التي تصدهم عن أعمالهم المدنية، وربَّما أوقعتهم في آراء مخالفة لصلاح المدينة»، فهذه منفعة التوحيد عنده، وهي راجعة لمصلحة صلاح الدنيا، ثم شرح ما: «يجب ـ لا محالة ـ على النبيِّ قد دبَّر لبقاء ما يسنٌّه ويشرعه في أمور المصالح الإنسانية تدبيرًا، ولا شك أن القاعدة من ذلك هي استمرار الناس على معرفتهم بالصانع والمعاد، وحسم سبب وقوع النسيان فيه مع انقراض القرن الذي يلي النبي، فيجب أن يكون على الناس أفعال وأعمال يسنُّ تكرارها عليهم في مدد متقاربة...»، ثم شرح ذلك، فذكر الطهارة والصلاة والصيام والحج، ثم قال في منفعتها وغايتها:

 « فهذه الأحوال ينتفع بها العامة في رسوخ ذكر الله - عزَّ اسمه - في أنفسهم، فيدوم لهم التشبُّثُ بالسنن والشرائع بسبب ذلك، وإن لم يكن لهم مثل هذه المذكِّرات تناسوا جميع ذلك مع انقراض قرنٍ أو قرنَين».

فالعبادات عند ابن سينا وسائل لإصلاح النفس بما يؤدي إلى إصلاح المعاملة بالتزام السنن والعدل، لهذا فهذه العبادات والشرائع: «لو فعلها فاعل ولم يعتقد أنها فريضة من عند الله تعالى ـ وكان مع اعتقاده ذلك يلزمه في كل فعل أن يتذكر الله تعالى، ويعرض عن غيره ـ لكان جديرًا بأن يفوز من هذا الزَّكاء بحظٍّ».

وختم ابن سينا بحثه هذا بقوله: «وتكون الفائدة في العبادات للعابدين بما تبقَى به فيهم السنة والشريعة، التي هي أسباب وجودهم، وبما يقرِّبهم عند المعاد من الله زُلفى بزكائهم»([5]).

الهوامش:

([1]) يحسن التنبيه هنا إلى أنَّ أبا نصر الفارابي (ت: 339) أسبق من ابن سينا في هذا الضلال، وابن سينا بمثابة تلميذٍ له لتخرُّجه على كتبه، لكن كلامه أكثر وأشهر من كلام الفارابي.

([2]) صرَّح ابن سينا بهذا في كتاب «النجاة في الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية» نقَّحه وقدَّم له: د. ماجد فاخوري، دار الآفاق الجديدة، بيروت: 1982م، ص: 326، وفي «الرسالة الأضحوية في أمر المعاد» ضبطها وحققها: لسليمان دنيا، دار الفكر العربي، القاهرة: 1949م، ص: 40-60، وكتاب «الشفاء» و«رسالة السعادة» و«رسالة القدر»، كما نقله حمودة غرابة في كتابه: «ابن سينا بين الدين والفلسفة»، طبع قديمًا في دار الطباعة والنشر الإسلامية بالقاهرة، ص: 170-174.

([3]) «دولة الشريعة: قراءة في جدلية الدين والسياسة عند ابن سينا» للدكتور علي عباس مراد، دار الطليعة، بيروت: 1999م، ص: 161.

([4]) «الرد على المنطقيين» ص: 281.

([5]) «كتاب النجاة» لابن سينا ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت : 1985 ، 338-343.

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©
تنفيذ مؤسسة المفهرس لتقنية المعلومات