أهمية التمييز بين مذهب المتكلمين ومذهب الفلاسفة


ذكرنا في المقال السابق: ( الآراء في علَّة التكليف والفرق بينها ) قول سلف الأمة وأئمتها ، وهو الحقُّ، أما المذاهب الأخرى فخارجة عن الحقِّ والصواب، لكن لا بدَّ هنا من التنبيه إلى الفارق الجوهري بين المذهب الثاني والثالث من جهة، والمذهب الرابع من جهة أخرى، فإنَّ هذا الأخير كفرٌ محضٌ، لا يصرِّحُ به إلا غلاة الفلاسفة وغلاة الصوفية، لأنَّ حقيقته إبطال حقائق النبوة والمعاد، وتكذيب الشرائع ـ كما سيأتي شرحه ـ، وأصحاب المذهبين من القدرية والجبرية وغيرهم يخالفون مذهب الفلاسفة، ويتبرؤون منه، ويُقرُّون بأن العبادة حقٌّ خالص لله تعالى، وأن العباد مأمورون بطاعة ربهم والخضوع له، وأن المقصود بذلك ابتغاء مرضاته للنجاة في الدار الآخرة، فهم موافقون لسلف الأمة وعلماء السنة في هذا الأصل العظيم، مفارقون لأهل الزندقة والإلحاد.

إن الخلاف بين أهل السنة وأصحاب المذهبين خلافٌ مبني على مسألة الحكمة والتعليل لأفعال الله تعالى ومأموراته، والمشهور فيها ثلاثة أقوال:

القول الأول: قول نفاة التعليل والحكمة الذين يقولون: إن الله لم يخلق هذا العالم لغاية ولم يخلق شيئًا لشيء، وأوامره لا لعلة ولا لداع ولا باعث، بل فعل ذلك لمحض المشيئة والإرادة، وهذا قول الأشعريِّ وأصحابه، وبه قال طوائف من أتباع الأئمة الأربعة منهم القاضي أبو يعلى الحنبلي. زعم هؤلاء أن جميع ما يفعله الله بالعباد لا علة فيه ولا حكمة، لا في أفعاله ولا في أمره وشرعه، ثم لما نظروا في علَّة التكليف وحكمته طرَّدوا أصلهم، وقالوا: التكليف لمحض المشيئة، وحكمته ومنفعته الابتلاء والامتحان في امتثال المكلَّف([1]).

القول الثاني: قول المعتزلة ومن وافقهم الذين قالوا: إن هذا العالم إنما خلق لحكمة وعلة، وهي حكمة وعلة تعود إلى المخلوق، لا إلى الخالق وأفعاله، وهذه الحكمة هي نفع الخلق والإحسان إليهم. وهم لا يقصدون بهذا أن التكليف وسيلةٌ للنفع الدنيوي للمكلَّف أو غيره، وإنما مرادهم أن نفس التكليف فيه منفعة للمخلوق وإحسان إليه، لما فيه من تعريض المكلَّف للنفع الذي لا يحصل بدونه وهو الثواب الأخرويُّ. لهذا فإن غاية الدين والعبادة والتشريع ـ وفق هذا المذهب ـ هو العمل للآخرة. وفي هذا يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي (ت: 415):

«وجه الحجَّة في خَلْق المكلَّف أنه تعالى خلقه لينفعه بالتفضُّل، وليعرِّضَه للثواب... ومتى صحَّ استحقاقُ النعيم الدائم بالعبادة؛ حسُنَ منه تعالى أن يلزمها المكلَّفَ، معرِّضًا له بها لهذه المنزلة»([2]).

القول الثالث: وهو قول أهل السنة الذين هم وسط في الأقوال فقالوا: إن الله تعالى حكيم، والحكمة صفة من صفات ذاته، فهو سبحانه لا يفعل شيئًا عبثًا، ولا لغير معنًى ومصلحةٍ وحكمةٍ هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله كلُّها صادرة عن حكمة بالغة، لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دلَّ كلامه عزَّ وجلَّ وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى، فالله تعالى قد خلق الخلق لغايةٍ، لم يخلقهم عبثًا، ولا تركهم سدًى، وهذه الغاية هي عبادته([3]).

الهوامش:

([1]) ورغم نفيهم الحكمة في أفعال الله تعالى أثبتوا الحِكَم والعلل في أحكام الشريعة، فتناقضوا، وحاولوا الجواب عن هذا الإشكال بتوجيهات متكلَّفة، راجع المسألة في «البحر المحيط» للزركشي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت: 1413، 5/122-125.

([2]) «المغني في أبواب التوحيد والعدل»، مجلد «التكليف»، تحقيق: محمد علي النجار، وعبد الحليم النجار، القاهرة، ص 134-135.

([3]) راجع الأقوال السابقة والبحث المستوفَى في الحكمة والتعليل في «مجموع الفتاوى» لابن تيمية 14/308، 8/81-158، و«شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل» لابن القيم، دار المعرفة، بيروت: 1978م، ص: 186-268، و«مفتاح دار السعادة» له 2/1076-1085، 1165-1172.

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©
تنفيذ مؤسسة المفهرس لتقنية المعلومات