من المعلوم أن الدِّين ليس مجرَّدَ شعائرَ تعبديَّةٍ محضةٍ، بل يتضمَّن - أيضًا - أحكامًا تفصيلية لتنظيم حياة الفرد والأسرة والمجتمع والدولة في جميع جوانبها الأخلاقية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وهي أحكامٌ كثيرة لا يمكن إنكارها، أو التهوين من شأنها، وهي ضروريَّة لإصلاح حياة بني آدم، ولها آثارٌ ونتائجٌ معنوية وماديَّة بالغة الأهمية والتأثير، حتَّى ظنَّ بعض الناس أنها هي الغاية المقصودة من الدِّين كلِّه، وأنَّ العبادات وسائل لتحقيقها، والحقيقة هي عكس هذا تمامًا، فتلك الأحكام الشرعية أسباب ووسائل لإقامة العبودية لله عزَّ وجلَّ، ولنوضِّح هذا بمثال فنقول:
إِنَّ قريةً قد ابتُلِيَ أهلُها بالأمراض الكثيرة، وليس فيهم طبيب، فقرَّرَ الملِكُ أن يجلبَ إليها عددًا من الأطباء الحذَّاق، ليبذلوا جهدهم في تشخيص أمراضهم، ووصف الأدوية الناجعة لهم. وعلمَ الملكُ أنَّهم لا يستطيعون تحقيق هذه الغاية إلا بتوفير الأسباب والوسائل المعينة لهم: فوفَّر لهم الماء والغذاء والدواء، وبنى مستشفى لاستقبال المرضى، ومساكن لإقامتهم، ، وأمر لهم بخدمٍ يخدمونهم، وبجنودٍ يحرسونهم، فتفرَّغَ الأطباءُ للغاية التي أُمروا بالعمل لها، وشُفي كثيرٌ من المرضى - بإذن الله تعالى-، وكان من نتائج ذلك وثمراته أنْ عاد كثير من الناس لما كانوا عليه من العمل والإنتاج، فتحسَّنت أوضاعهم المعيشية، وقلَّت الجرائم والجنايات بينهم، وعمَّت السعادة في أرجاء القرية، وشعر أهلها بالطمأنينة، وصاروا أكثر تفاؤلًا ونشاطًا، وأقرب إلى الخير والإحسان.
فهاهنا ثلاثة أمورٍ:
الأول: هو الحكمة المقصودة، والغاية المطلوبة من الأطباء: وهي مداواة المرضى.
الثاني: الأسباب والوسائل المعينة لهم على بلوغ الغاية التي أمروا بها، وأرسلوا إلى القرية من أجلها. وهي مهما كانت مهمة وضرورية - كالماء والغذاء والدواء - تبقى في درجة ثانية بعد الغاية المطلوبة لذاتها.
الثالث: النتائج الطيبة والآثار الحسنة لقيامهم بما أمروا به - سواء ما يتعلَّق بالفرد أو بالمجتمع - من التنمية وزيادة الإنتاج، والراحة النفسية، والأمن والأمان، والطمأنينة والاستقرار والرخاء. فهذه النتائج والآثار في غاية الأهميَّة أيضًا، لكنها في الحقيقة غير مطلوبة لذاتها، بل هي مقصودة تبعًا لا استقلالًا، ووقوعها في الخارج ليس ضروريًّا، فقد تتحقَّقُ وقد تتخلَّف.
في ضوء هذا المثال نفهم مراتب أحكام الديانة وآثارها، فالله تعالى - وله المثل الأعلى سبحانه - قد خلق الإِنْسَ والجنَّ لغاية مقصودة وهي: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. ولكي يتمكَّنوا من تحقيق هذه الغاية سخَّر لهم الأسباب الكونيَّة: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]، كما وضع لهم شريعةً هاديةً فيها صلاحُ أمرِ دنياهم في المعاملات والتجارات والصنائع والأنكحة والأقضية والوِلايات والعقوبات وسائر شؤونهم. وهذه الأحكام مطلوبة لأنها وسائل وأسباب تعين المكلَّفَ على القيام بما خُلقَ من أجله من عبادة الله والعمل للآخرة، وهذا من كمال الشريعة ومحاسنها؛ «ولا يتصوَّر شرعٌ فيه صلاحُ الآخرة دون الدُّنيا، فإن الآخرة لا تقوم إلا بأعمال في الدنيا مستلزمةٍ لصلاح الدنيا، وصلاحها غيرُ التناول لفضوله»([1])، فلا ينشغل بها انشغاله بالمقاصد والغايات.
وبالجملة: فإن جميع أحكام الشريعة العملية هي خادمة لمقصدها الأعظم، وهو تمكين المكلَّف من القيام بالغاية التي خُلق من أجلها، وهي أن يعبد الله تعالى ولا يشرك به شيئًا، فهي من باب الأسباب والوسائل والأدوات التي امتنَّ الله بها على عباده، رفقًا بهم، وإحسانًا إليهم، وفي تقرير هذا قال الفخر الرازي (ت: 606): «إنَّ الله تعالى خلق الآدميين للعبادة لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات]، والحكيمُ إذا أمَرَ عبدَه بشيءٍ فلا بدَّ وأن يُزيح عُذْره وعلَّته، ويسعى في تحصيل منافعه، ودفع المضارِّ عنه، ليصير فارغَ البال، فيتمكَّن من الاشتغال بأداء ما أمره به، والاجتناب عمَّا نهاه عنه، فكونه مكلَّفًا يقتضي ظنَّ أنَّ الله تعالى لا يَشْرَعُ إلَّا ما يكون مصلحةً له»([2]).
وسبقه إلى هذا المعنى أبو حامد الغزَّاليُّ (ت: 505) مقرِّرًا أهمية إصلاح نظام الدنيا بالقدر الحاجيِّ الخادم لنظام الدِّين؛ فقال: «نظامُ الدِّين بالمعرفة([3]) والعبادة لا يُتوصَّل إليهما إلا بصحة البدن، وبقاء الحياة، وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات، والأمن هو آخر الآفات، ولعمري من أصبح آمنًا في سِرْبه، معافًى في بدنه، وله قوت يومه؛ فكأنَّما حيزتْ له الدنيا بحذافيرها، وليس يأمن الإنسانُ على روحه وبدنه وماله ومسكنه وقوته في جميع الأحوال بل في بعضها، فلا ينتظم الدِّين إلا بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضروريَّة، وإلا فمن كان جميعَ أوقاته مستغرقًا بحراسة نفسه من سيوف الظلمة، وطلب قوته من وجوه الغلبة؛ متى يتفرَّغ للعلم والعمل، وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخرة؟! فإذن بَانَ نظامُ الدنيا، أعني مقادير الحاجة شرطٌ لنظام الدِّين»([4]).
ولا شكَّ أن الله تعالى هو الحكيم الخبير، والرؤوف الرحيم؛ فكلُّ ما شرعه وأمر به يَنْتِجُ الخيرَ والسعادةَ في الدنيا قبل الآخرة، كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30]([5])، وقال جلَّ شأنه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
وتلك الآثار العاجلة الطيبة، والنتائج الدنيوية المفيدة؛ يسميها بعض العلماء بالمقصود تبعًا لا أصالة، وذلك تنبيهًا على أهميَّة ما هو مقصود لذاته أصالةً، فهو بالدرجة العليا، وأنَّ ذلك لا يعني إهمال ما هو مقصود تبعًا، وفي هذا يقول الشاطبيُّ رحمه الله: «إنَّ للشارع مقاصدَ تابعةً في العبادات والعادات معًا. أما في العادات: فهو ظاهرٌ([6])، وأما في العبادات: فقد ثبت ذلك فيها؛ فالصلاة - مثلًا - أصلُ مشروعيَّتها الخضوعُ لله سبحانه بإخلاص التوجه إليه، والانتصاب على قدم الذِّلَّة والصَّغار بين يديه، وتذكير النفس بالذكر له، قال تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 20]، وقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]([7])، وفي الحديث: «إنَّ المصلِّيَ يُناجي ربَّه»([8]). ثم إنَّ لها مقاصد تابعةً؛ كالنَّهي عن الفحشاء والمنكر، والاستراحة إليها من أنكاد الدنيا، في الخبر: «أرِحْنا بها يا بلالُ»([9])، وفي الصحيح: «وجُعلت قُرَّة عيني في الصلاة»([10])، وطلب الرِّزق بها، قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]، وفي الحديث تفسير هذا المعنى([11])، وإنجاح الحاجات؛ كصلاة الاستخارة، وصلاة الحاجة، وطلب الفوز بالجنة، والنجاة من النار، وهي الفائدة العامة الخالصة، وكون المصلِّي في خفارة الله تعالى، في الحديث: «من صلَّى الصُّبحَ لم يزلْ في ذِمَّة الله»([12])، ونيل أشرف المنازل، قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]؛ فأُعطيَ بقيام الليل المقامَ المحمودَ. وفي الصيام سدُّ مسالك الشيطان، والدخول من باب الرَّيَّان، والاستعانة على التحصين في العُزْبَة؛ في الحديث: «من استطاع منكم الباءة؛ فليتزوَّج»، ثم قال: «ومن لم يستطع؛ فعليه بالصوم فإنه له وِجَاءٌ»([13]). وقال: «الصيام جُنَّةٌ»([14]). وقال: «ومن كان مِنْ أهل الصيام؛ دُعيَ من باب الرَّيَّان»([15]). وكذلك سائرُ العبادات: فيها فوائدُ أُخرويةٌ، وهي العامةُ، وفوائدُ دنيويةٌ، وهي - كلها - تابعةٌ للفائدة الأصليَّة، وهي الانقيادُ والخضوع لله كما تقدَّم، وبعد هذا يتبعُ القصدَ الأصليَّ جميعُ ما ذُكِرَ من فوائدها وسواها، وهي تابعةٌ...»([16]).
وقال أيضًا: «إنَّ المقصد الأصليَّ في العبادات: التوجُّه إلى الواحد المعبود، وإفرادُه بالقصد إليه على كل حال، ويتبع ذلك: قصدُ التعبُّد لنيل الدرجات في الآخرة، أو ليكون من أولياء الله تعالى، وما أشبه ذلك، فإنَّ هذه التوابع مؤكِّدةٌ للمقصود الأول وباعثةٌ عليه، ومقتضيةٌ للدوام فيه سرًّا وجهرًّا، بخلاف ما إذا كان القصد إلى التابع لا يقتضي دوامَ المتبوع ولا تأكيدَه؛ كالتعبُّد بقصد حفظ المال والدَّم، أو لينال من أوساخ الناس أو من تعظيمهم؛ كفعل المنافقين والمرائين، فإنَّ القصد إلى هذه الأمور ليس بمؤكِّدٍ ولا باعث على الدوام، بل هو مقوٍّ للتَّرْك ومُكسِلٌ عن الفعل، ولذلك لا يدوم عليه صاحبُه إلَّا ريثما يترصَّدُ به مطلوبَه، فإنْ بَعُدَ عليه تركَه، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]. فمثل هذا المقصِدْ مضادٌّ لقصد الشارع إذا قُصد العملُ لأجله، وإنْ كان مقتضاه حاصلًا بالتبعيَّة من غير قصدٍ؛ فإنَّ النَّاكح على المؤكِّد لبقاء النِّكاح قد يحصل له الفراقُ، فيستوي مع الناكح للمتعة والتحليل، والمتعبِّد لله على المؤكِّد يحصل له حفظ الدم والمال ونيل المراتب والتعظيم، فيستوي مع المتعبِّد للرِّياء والسُّمعة، ولكنَّ الفرقَ بينهُما ظاهرٌ من جهة أنَّ قاصدَ التابع المؤكِّد حَرٍ([17]) بالدَّوام، وقاصدَ التابع غير المؤكِّد حَرٍ بالانقطاع»([18]).
والمقصود: أن للأحكام الشرعية - عباداتٍ كانت أم معاملاتٍ - آثارًا وثمارًا عاجلةً في هذه الحياة الدنيا، وهي من بركات إقامة العبودية لله عزَّ وجلَّ، ومن محاسن الإسلام، وكمال الشريعة، لكنها ليست الغاية الأصليَّة من الدِّين، ولا تعدو أن تكون مقصودةً «تبعًا» لا «أصالة»، وما يدخل منها في خطاب التكليف قد يكون من الواجبات، أو من المستحبَّات، وجميعُ ذلك من شُعب الإيمان ومراتبه، وإنْ كان بينها تفاوتٌ كبيرٌ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بِضْعٌ وسبعونَ شعبةً، فأفضلها قولُ: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطةُ الأذى عن الطريق، والحياء شُعبة من الإيمان»([19]). فإماطة الأذى عن الطريق هو من الكمال المستحبِّ لا الواجب([20])، بخلاف كلمة التوحيد التي هي أصل الدِّين، وشرط صحته، وقاعدة بنائه. ومن الجنون والسفاهة وإفساد الحقائق: قَلْبُ شُعب الإيمان رأسًا على عقبٍ، ثم ادِّعاءُ أنَّ أدنَى مراتب الإيمان ـ وما شابهه وقاربه في المنزلة من الأعمال الصالحة ـ يُمثِّل جوهر الدِّين وروحه وغايته!
الهوامش:
([1]) قاله ابن تيمية كما في «جامع المسائل» تحقيق: محمد عُزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة: 1422، 6/151.
([2]) «المحصول في علم أصول الفقه» تحقيق: د. طه جابر العلواني، مؤسسة الرسالة، بيروت: 1418، 5/174.
([3]) يتكلم الغزالي بمصطلحاته الكلامية والصوفية ومنها (المعرفة) والصواب (بالإيمان والتوحيد)
([4]) «الاقتصاد في الاعتقاد» تحقيق: د. إبراهيم جوبوقجي، وحسين آتاي، كلية الإلهيات بجامعة أنقرة: 1962م، 235.
([5]) الاستشهاد بالآية هنا على وجهٍ في التأويل بأنَّ «الحسنة» المذكورة هي في الدنيا، وهو اختيار ابن جرير الطبريِّ رحمه الله فقد قال في «جامع البيان»: «يقول تعالى ذِكْرُه: للذين آمنوا بالله في هذه الدنيا ورسوله، وأطاعوه فيها، ودعوا عباد الله إلى الإيمان والعمل بما أمر الله به {حسنةٌ}، يقول: كرامةٌ من الله. {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ}، يقول: ولدار الآخرة خير لهم من دار الدُّنيا، وكرامةُ الله التي أعدَّها لهم فيها أعظمُ من كرامته التي عجلها لهم في الدنيا». وقال ابن كثير الدمشقي في «تفسير القرآن العظيم»: «أي: من أحسن عمله في الدنيا: أحسنَ الله إليه عمله في الدنيا والآخرة. ثم أخبر بأن دار الآخرة خير، أي: من الحياة الدنيا، والجزاء فيها أتم من الجزاء في الدنيا، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} [القصص:80]، وقال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ}[آل عمران:198]، وقال تعالى:{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى:17]، وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى:4]». وجزم ابن الجوزي رحمه الله في «زاد المسير» بأنَّ «حسنة»: «كرامة من الله تعالى في الآخرة، وهي الجنة». وأشار إلى تضعيف القول الآخر.
([6]) وقد ذكر الشاطبيُّ بعض الأمثلة عليه، منها: النكاح؛ فإنه مشروع للتناسل على المقصد الأول، ويليه طلب السكن والازدواج، والتعاون على المصالح الدنيوية والأخروية؛ من الاستمتاع بالحلال، والنظر إلى ما خلق الله من المحاسن في النساء، والتجمل بمال المرأة، أو قيامها عليه وعلى أولاده منها أو من غيرها أو إخوته، والتحفظ من الوقوع في المحظور من شهوة الفرج ونظر العين، والازدياد من الشكر بمزيد النعم من الله على العبد، وما أشبه ذلك فجميع هذا مقصود للشارع من شرع النكاح.
([7]) قال الإمام الفقيه عبد الله بن عون البصريُّ (ت: 150) في تفسير هذه الآية: «ولَذِكْرُ الله تعالى في الصلاة أكبرُ ممَّا نهاك عنه من الفحشاء والمُنكَر»، ذكره ابن الجوزي في «زاد المسير»، وقال في معنى النَّهي: «وفي معنى هذه الآية للعلماء ثلاثة أقوال: أحدها: أن الإِنسان إِذا أدَّى الصلاة كما ينبغي وتدبَّر ما يتلو فيها، نهته عن الفحشاء والمنكر، هذا مقتضاها وموجبها. والثاني: أنها تنهاه ما دام فيها. والثالث: أن المعنى: ينبغي أن تنهى الصلاةُ عن الفحشاء والمنكر». ومن تأمَّل هذه الأقوال تبيَّن له بجلاء أنَّ العلماء فهموا أن النَّهي المذكور من آثار إقامة العبودية لله تعالى التي فيها صلاح أمر الدين والدنيا، كما قال ابن تيمية: «فإن الصلاةَ فيها دفعُ مكروهٍ ـ وهو الفحشاء والمنكر ـ، وفيها تحصيل محبوبٍ ـ وهو ذكر الله ـ، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع ذلك المكروه، فإن ذكر الله عبادة لله، وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها، وأما اندفاع الشرِّ عنه فهو مقصود لغيره على سبيل التبع» (المجموع: 10/188)، وليس المقصود بهذا أن الانتهاء عن الفحشاء والمنكر لا يدخل تحت التكليف، بل هو من آثار الصلاة الواجبة التي يجب على المكلَّف السعي لتحقيقها. وراجع: «الوابل الصيب من الكلم الطيب» لابن القيم، دار الحديث، القاهرة: 1999م، 75.
([8]) أخرجه البخاري (531) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
([9]) أخرجه أبو داود (4985)، وأورده الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (7892).
([10]) أخرجه النسائي 7/61 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وصحَّحه ابن القيم في «زاد المعاد» 1/150.
([11]) يشير إلى حديث ضعيفٍ أخرجه الطبراني في «الأوسط» (886) من حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه؛ بلفظ: كان النبيُّ صلى الله عليه سلم إذا نزل بأهله الضِّيقُ أمرهم بالصلاة، ثم قرأ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].
([12]) أخرجه مسلم (657) من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
([13]) أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (1400) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
([14]) أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (806) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([15]) أخرجه البخاري (1896)، ومسلم (1152) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([17]) أي: خليقٌ وجديرٌ. يقال: هو حَرٍ، وهو حَرِيٌّ.
([18]) «الموافقات» 3/140، وهو من بحث نفيسٍ في (أن للشارع في شرع الأحكام العادية والعبادية مقاصد أصلية ومقاصد تابعة).
([19]) أخرجه أحمد (9748)، البخاري (9)، ومسلم (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([20]) هذا ما يدلُّ عليه كلام العلماء، ولم أجد لهم قولًا بوجوبها، وهذا بخلاف تعمُّد طرح الشوك في الطريق والحجارة والكناسة والمياه المفسدة للطرق وكل ما يؤذي الناس؛ فهو أمر محرَّم، تُخشَى العقوبةُ عليه في الدنيا والآخرة. انظر: «شرح صحيح البخاري» لابن بطَّال القرطبي (ت: 449) رحمه الله، مكتبة الرشد، الرياض: 1423، 6/600.