ذكرنا في المقالات السابقة المنهج الصحيح في تفسير الإسلام، وخلصنا إلى أنه يتمثَّل في إخلاص العبودية لله تعالى والعمل للدار الآخرة، فكان من لوازم ذلك أن نبيِّن: مفهوم العبادة، والفرق بينها وبين الطاعة، والتمييز بينها وبين العادات، وكان مقصدنا من ذلك ـ كلِّه ـ بناء فهم سليم متكامل عن العبادة وحقيقتها والغاية منها، وإذْ تمَّ لنا ذلك؛ فإن هذا البناء لا يقوم ولا ينفع إلا إذا أريد به وجه الله تعالى والدار الآخرة، وأيُّ خلل أو شائبة تدخل على هذه الإرادة فإنها تنقض لَبناتِ ذلك البناء، بعضَها أو كلَّها، حتى تأتي على البناء كله فتجعله خرابًا يبابًا. والتفسير النفعي والسياسي للدين من أخطر المداخل إلى إفساد إرادة الإنسان وقصده، بحيث تتوجَّه بوصلة القلب إلى العمل للدنيا حرصًا على منفعة الدين وفائدته العاجلة - معنوية كانت أم حسية، سياسية كانت أم اجتماعية -، فيجتهد المسلم ويبذل ويضحي ولا يدري أنه قد حرم نفسه من الثواب الأخرويِّ، بل يحسب أنه يُحسن صنعًا.
هذا موضع في غاية الدقة، وقد وجدت للشيخ الإمام المجدِّد محمد بن عبد الوهاب (ت: 1206) كلمة نفيسة في تحرير القول في مراتب العاملين من جهة إرادتهم، فرأيت أن أسوقها بطولها، قال رحمه الله تعالى:
«قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16]، وقد ذكر عن السلف من أهل العلم فيها أنواع مما يفعل الناس اليوم ولا يعرفون معناه:
النوع الأول: من ذلك العمل الصالح الذي يفعل كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صدقة وصلاة وإحسان إلى الناس ونحو ذلك، وكذلك ترك ظلم أو كلام في عرض، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصًا لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، إنما يريد أن الله يجازيه بحفظ ماله وتنميته، وحفظ أهله وعياله وإدامة النعمة عليهم ونحو ذلك، ولا همة له في طلب الجنة ولا الهرب من النار، فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة نصيب، وهذا النوع ذكر عن ابن عباس في تفسير الآية. وقد غلط بعض مشايخنا بسبب عبارة في «شرح الإقناع» في أول باب النية، لما قسَّم الإخلاص مراتب، وذكر هذا منها ظن أنه يسميه إخلاصًا مدحًا له وليس كذلك، وإنما أراد أنه لا يسمى رياء، وإلا فهو عمل حابط في الآخرة.
والنوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكر مجاهد أن الآية نزلت فيه، وهو أن يعمل أعمالًا صالحة ونيته رئاء الناس، لا طلب ثواب الآخرة، وهو يظهر أنه أراد وجه الله وإنما صلى أو صام أو تصدق أو طلب العلم لأجل أن الناس يمدحونه ويجل في أعينهم، فإن الجاه من أعظم أنواع الدنيا. ولما ذُكر لمعاوية حديثُ أبي هريرة في الثلاثة الذين هم أول من تسعَّر بهم النار وهم: «الذي تعلَّم العلمَ ليُقال: عالم؛ حتَّى قيل، وتَصدَّق ليُقال: جواد، وجاهد ليُقال: شجاع»، بكى معاويةُ بكاء شديدًا، ثم قرأ هذه الآية([1]).
النوع الثالث: أن يعمل الأعمال الصالحة ومقصده بها مالًا، مثل أن يحج لمال يأخذه لا لله، أو مهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذكر هذا النوع أيضًا في تفسير هذه الآية كما في «الصحيح» أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «تَعِسَ عبدُ الدينار، تعس عبدُ الدرهم، تعس عبد الخميصة»([2]). وكما يتعلم العلم لأجل مدرسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم، أو يقرأ القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد كما هو واقع كثيرًا. وهؤلاء أعقل من الذين قبلهم، لأنهم عملوا لمصلحة يحصلونها، والذين قبلهم عملوا لأجل المدح والجلالة في أعين الناس ولا يحصل لهم طائل. والنوع الأول أعقل من هؤلاء كلهم، لأنهم عملوا لله وحده لا شريك له، لكن لم يطلبوا منه الخير العظيم وهو الجنة، ولم يهربوا من الشر العظيم وهو العذاب في الآخرة.
النوع الرابع: أن يعمل الإنسان بطاعة الله مخلصًا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفره كفرًا يخرجه عن الإسلام، مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله، وتصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم شرك أكبر أو كفر أكبر يخرجهم عن الإسلام بالكلية إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم؛ فهذا النوع أيضًا قد ذكر في الآية عن أنس بن مالك وغيره. وكان السلف يخافون منه كما قال بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل منِّي سجدة واحدة لتمنَّيت الموت لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}. فهذا قصد وجه الله والدار الآخرة، لكن فيه من حب الدنيا والرياسة والمال ما حمله على ترك كثير من أمر الله ورسوله أو أكثره، فصارت الدنيا أكبر قصده، فلذلك قيل: قصد الدنيا، وصار ذلك القليل كأنه لم يكن كقوله صلى الله عليه وسلم «صل فإنك لم تصلِّ»([3])، والأول أطاع الله ابتغاء وجهه لكن أراد من الله الثواب في الدنيا، وخاف على الحظ والعيال مثل ما يقول الفسقة، فصح أن يقال: قصد الدنيا. والثاني والثالث واضح.
لكن بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله طالبًا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالًا كثيرة أو قليلة قاصدًا بها الدنيا، مثل أن يحجَّ فرضه لله، ثم يحجَّ بعدَه لأجل الدنيا كما هو الواقع كثيرًا؟! فالجواب: أن هذا عمل للدنيا والآخرة ولا ندري ما يفعل الله في خلقه، والظاهر أن الحسنات والسيئات تدافعا، وهو لما غلب عليه منهما. وقد قال بعضهم: أن القرآن كثيرًا ما يذكر أهل الجنة الخلص وأهل النار الخلص، ويسكت عن صاحب الشائبتين، وهو هذا وأمثاله، ولهذا خاف السلف من حبوط الأعمال، وأما الفرق بين الحبوط والبطلان فلا أعلم بينهما فرقًا بينًا، والله أعلم»([4]).
الهوامش:
([1]) أخرجه الترمذي (2382)، وابن خزيمة (2325)، وابن حبان (408)، والنسائي في «السنن الكبرى» (11824)، من طريق شُفي الأَصبحي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا. ثم حدَّث شُفي معاويةَ بن أبي سفيان رضي الله عنه بالحديث. والحديث في «صحيح مسلم» (1905) دون قصة معاوية.
([3]) أخرجه البخاري (757) ، ومسلم (399) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
([4]) «مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب»، القسم الرابع، التفسير، ص120-123، والقسم الثالث، الفتاوى، ص 5-8. وسنذكر ـ إن شاء الله ـ تفصيل القول في هذه المسألة تأصيلًا وتفريعًا في كتابنا: «التفسير النفعي للإسلام».