التفريق بين العبادات والعادات


مما اتفق عليه الفقهاء، والتزموه في تقريراتهم؛ تقسيم أحكام الشريعة إلى عبادات وعادات([1]). وقد عُنوا بالتفريق والتمييز بينهما لما يترتب على ذلك من آثار شرعية مهمة.

قال أبو العبَّاس ابن تيمية رحمه الله: «تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم. فباستقراء أصول الشريعة أن العبادات التي أوجبها الله أو أباحها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه. والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله ورسوله. وذلك لأن الأمر والنهي مما شرع الله تعالى، والعبادة لا بدَّ أن تكون مأمورًا بها، فما لم يثبت أنه مأمور كيف يحكم عليه بأنه عبادة؟ وما لم يثبت من العادات أنه منهي عنه كيف يحكم عليه أنه محظور؟ ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى، وإلا دخلنا في معنى قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. والعادات: الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرَّمه الله وإلا دخلنا في معنى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]»([2]).

إن المسلم مخاطب بأحكام الشريعة كلها، لا فرق في ذلك بين العبادات والأخلاق والسلوك والعادات والمعاملات، فالواجب عليه الامتثال لأوامر الله تعالى، والخضوع لأحكامه كلِّها، كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]. هذا أمر معلوم من دين الله عزَّ وجلَّ بالضرورة؛ لكن لا بدَّ مع هذا من الفقه بمراتب الأحكام، واختلاف منازلها، وتفاوت أهمِّيتها. فالعبادات هي المقصودة أصالةً، وهي أصل الدِّين وأساسه، وعليها قيامه ومداره، أما المعاملات فتابعةٌ لها، وخادمةٌ لمقاصدها، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله ـ وقد ذكر قولَ الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح رحمه الله: «الإسلام هو الأركان الخمسة» ـ:

«ذَكَرَ الخمسَ أنَّها هي الإسلام؛ لأنها هي العبادات المحضَة التي تجب لله تعالى على كلِّ عبدٍ مطيقٍ لها، وما سواها: إما واجب على الكفاية لمصلحةٍ إذا حصلتْ سقط الوجوب، وإما من حقوق الناس بعضهم على بعض، وإن كان فيها قربةٌ، ونحو ذلك. وتلك تابعة لهذه كما قال صلى الله عليه وسلم: «المسلمُ من سَلِمَ المسلمون مِن لسانه ويده» ([3])، و«أفضل الإسلام: أن تُطعم الطعام، وتَقْرَأُ السلامَ على مَن عرفتَ، ومَن لم تَعرف»([4])، ونحو ذلك، فهذه الخمس هي الأركان والمباني كما في الإيمان»([5]).

إن هذا التصورَ الصحيح، المبنيَّ على فقه دقيق لنصوص الكتاب والسنة، واستقراءٍ تامٍّ لها؛ يُعطي المكانة المركزية في الاعتقاد والتديُّن لقضية توحيد الله تعالى وعبادته، ويُنزل بقية أحكام الشريعة العملية منازلها الصحيحة، من حيث كونها من كمال الدِّين وتمامه - إما الكمال الواجب، أو الكمال المستحب -، وتضييعها نقصٌ كبير، وخطرٌ عظيم، لكنَّه لا يخلُّ بأصل الدِّين، ولا يُفقده غايته العُليا، ومقصده الأعظم.

إن هذا التأصيل الشرعي ينسف نظرية التفسير السياسي والنفعي للإسلام من جذورها، لهذا عمِدَ بعض المفكرين الإسلاميين إلى التشغيب على هذا التقسيم، فنفوا التفريق بين العبادات والمعاملات، ثم رفعوا المعاملات إلى منزلة العبادات، وجعلوها كلَّها من جنسٍ واحدٍ في غايتها ومقصدها، وبعضهم صرَّح بأن العبادات وسيلة لتحقيق المعاملات وفق المنهاج الإلهي([6]). هذا التصورُ المنكوسُ لأصل الدِّين روَّجه أصحابُه للتأكيد على مركزية الجانب الاجتماعي والسياسي من الدِّين، بحيث لا يمكن تصور قيام الدِّين من غير تحقيق النموذج الإسلامي في المجتمع والدولة. واستنادًا إلى دعوى عدم قيام ذلك النموذج؛ لجؤوا إلى تكفير الحكَّام والمجتمعات المسلمة، وانجرفوا في طريق التطرف والعنف والإرهاب.

يقول سيد قطب:

«لا انفصام في هذا الدين بين ما اصطلح أخيرًا في الفقه على تسميته بأحكام العبادات، وما اصطلح على تسميته بأحكام المعاملات. هذه التفرقة - التي اصطنعها «الفقه» حسب مقتضيات «التصنيف والتبويب» - لا وجود لها في أصل المنهج الرباني، ولا في أصل الشريعة الإسلامية. إن هذا المنهج يتألَّف من هذه وتلك على السواء، وحكم هذه كحكم تلك في أنها تؤلِّف دين الله وشريعته ومنهجه؛ وليست هذه بأولى من تلك في الطاعة والاتباع. لا، بل إن أحد الشطرين لا يقوم بغير الآخر، والدين لا يستقيم إلا بتحققهما في حياة الجماعة المسلمة على السواء. كلها «عقود» من التي أمر الله المؤمنين في شأنها بالوفاء، وكلها «عبادات» يؤديها المسلم بنية القربى إلى الله، وكلها «إسلام» وإقرار من المسلم بعبوديته لله. ليس هنالك «عبادات» وحدها، و«معاملات» وحدها؛ إلا في «التصنيف الفقهي»، وكلتا العبادات والمعاملات بمعناها هذا الاصطلاحي، كلها «عبادات» و«فرائض» و«عقود» مع الله، والإخلال بشيء منها إخلال بعقد الإيمان مع الله!»([7]).

  وفي هذا الكلام جملة من الأباطيل أُشير إليها باختصار:

1- التفرقة بين العبادات والمعاملات ليست تفرقةً اصطلاحيَّةً اقتضاها «التصنيفُ والتبويبُ»، بل هي تفرقة حقيقة، بناء على ما ثبت بالأدلة الشرعية والاستقراء التام من الخصائص المميزة بينهما.

2- التسوية بين العبادات والمعاملات في المرتبة والحكم؛ مخالف لمنهج أهل السنة، جارٍ على طريقة الخوارج، ويؤكد هذا قوله: «والإخلال بشيء منها إخلال بعقد الإيمان مع الله»؛ لهذا كان فكر سيد قطب أساسًا لتيار الغلو في التكفير في العصر الحديث.

3- زعمه أنَّ أحد الشطرين لا يقوم بغير الآخر؛ باطلٌ بيقينٍ، فإن العبادات تقوم بنفسها، وبقيامها قيام الدِّين، وإن حصل إخلال ونقص في المعاملات، أما المعاملات فلا فائدة في قيامها إلا بقيام العبادات خالصةً لوجه الله تعالى.

الهوامش:

([1]) والمقصود بالعادات: المعاملات، لكنَّها أعمُّ من المعاملات، وإن كان اللفظان يستعملان كثيرًا على وجه الترادف.

قال ابن عابدين في حاشيته «ردِّ المحتار» 4/500: «المراد بالعبادات ما كان المقصود منها في الأصل تقرب العبد إلى الملك المعبود، ونيل الثواب والجود، كالأركان الأربعة ونحوها، وبالمعاملات ما كان المقصود منها في الأصل قضاء مصالح العباد كالبيع والكفالة والحوالة ونحوها، وكون البيع أو الشراء قد يكون واجبًا لعارض لا يُخرجه عن كونه من المعاملات، كما لا تخرج الصلاة مع الرياء عن كون أصل الصلاة عبادة».

([2]) «مجموع الفتاوى» 29/16-17. وانظر «إعلام الموقعين» 1/260.

([3]) أخرجه البخاري (10)، ومسلم (40) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. وأخرجه البخاري (11)، ومسلم (44) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلتُ يا رسول الله أيُّ الإسلام أفضلُ؟ قال: «مَن سلم المسلمون من لسانه ويده».

([4]) أخرجه البخاري (12)، ومسلم (42) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رجلًا سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: «أن تطعم الطعام،...».

([5]) «مجموع الفتاوى» 7/361-363.

([6]) أشهر من صرح بهذا: المودودي ، وسيد قطب، ومحمد قطب، وعلي شريعتي وغيرهم، وسيأتي النقل عنهم.

([7]) «في ظلال القرآن» 2/322، وتكلم عن هذا ـ أيضًا ـ في 4/277، ونكتفي هنا بما نقلناه أعلاه، لأننا سنفصل القول في مناقشته في أبحاثنا المطولة في تفسير الإسلام، إن شاء الله تعالى.

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©
تنفيذ مؤسسة المفهرس لتقنية المعلومات