الاستقراء والتتَّبع من أهم المسالك في تفسير الإسلام


ومن أهم المسالك في تفسير الإسلام: الاستدلال بالاستقراء والتتَّبع لما دلَّت عليه نصوص الكتاب والسنة من المعاني والأحكام، فيدرك بذلك منزلتها وأهميتها، والقدر المشترك بينها. وقد عرَّف أبو حامد الغزَّالي الاستقراءَ بأنه: «عبارة عن تصفح أمور جزئية لنحكم بحكمها على أمر يشمل تلك الجزئيات»([1]). وأفاد الشاطبي بأنَّ «استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام؛ فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ»؛ هو: «تصفح جزئيات ذلك المعنى ليثبت من جهتها حكم عامٌّ، إما قطعيٌّ، وإما ظنيٌّ، وهو أمر مسلَّمٌ عند أهل العلوم العقلية والنقلية، فإذا تم الاستقراءُ حكم به في كل فَردٍ يُقدَّر»([2]).

فالمتتبع لنصوص الكتاب والسنة، والناظر فيها بعين الفقه والتأمل لما فيها من تكرار وتأكيد، ووعد ووعيد، وبشارة وإنذار؛ يدرك حقيقة مراد الله تعالى من عباده بهذه الرسالة الخاتمة، ويعلم أن مدارها على جملة من الأصول الكلية التي تمثُّل الغاية والمقصد منها، وهي راجعة إلى أصل جامع، ومقصد كليٍّ، وهو: تحقيق العبودية لله عز وجلَّ لنيل مرضاته، والفوز بجناته، والسلامة من عقابه. هذا ثمرة الاستقراء التامِّ لنصوص الشريعة، توصَّل إليها العلماء رغم ما بينهم من اختلاف في مسائل الأصول والفروع، ونكتفي هنا بذكر هذه النماذج من كلامهم:

1- قال أبو حامد الغزَّالي (ت: 505): «الفصل الثاني: في حصر مقاصد القرآن ونفائسه: سرُّ القرآن، ولُبابه الأصفى، ومقصِده الأقصى؛ دعوةُ العباد إلى الجبار الأعلى، ربُّ الآخرة والأولى، خالق السماوات العلى، والأرضين السُّلفى، وما بينهما وما تحت الثَّرى، فلذلك انحصرتْ سور القرآن وآياته في ستة أنواع:

- ثلاثة منها: هي السوابق والأصول المهمَّة.

- وثلاثة: هي الرَّوادف والتوابع المغنية المتمَّة.

أما الثلاثة المهمة فهي:

(1) تعريف المدعوِّ إليه.

(2) وتعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه.

(3) وتعريف الحال عند الوصول إليه.

وأما الثلاثة المغنية المتمَّة:

فأحدها: تعريف أحوال المجيبين للدعوة ولطائف صنع الله فيهم؛ وسره ومقصوده التشويق والترغيب، وتعريف أحوال الناكبين والناكلين عن الإجابة وكيفية قمع الله لهم وتنكيله لهم؛ وسره ومقصوده الاعتبار والترهيب.

وثانيها: حكاية أحوال الجاحدين، وكشف فضائحهم وجهلهم بالمجادلة والمحاجَّة على الحق، وسرُّه ومقصوده في جنب الباطل الإفضاح والتَّنفير، وفي جنب الحقِّ الإيضاح والتثبيت والتقهير.

وثالثها: تعريف عمارة منازل الطريق، وكيفية أخذ الزاد والأهبة والاستعداد.

فهذه ستة أقسام»([3]).

هكذا نجد نتيجة الاستقراء عند الغزالي؛ أن المقاصد الأصلية في القرآن، التي لها مرتبة السبق والأولوية، مدارها على أمور ثلاثة: معرفة (المدعوِّ إليه) بالاعتقاد الصحيح فيه، ومعرفة (الصراط المستقيم) لإقامة العبودية له بما فرضه على عباده من العبادات، وبيان الواجبات والمنهيات، ومعرفة (الحال عند الوصول إليه)، وهي العقبى والمآل يوم الحشر والحساب. فتمحَّضَت المقاصدُ القرآنية الأصلية في تحقيق العبودية لله تعالى والعمل للآخرة، وما عداها من الأحكام فتابعة لها، خادمة لمقاصدها.

2- وقال الفخر الرازي (ت: 606) في سبب تسمية سورة الفاتحة: «أُمَّ القرآن»: «فيه وجوه: الأول: أنَّ أُمَّ الشيء أصلُه، والمقصود من كل القرآن تقرير أمور أربعة: الإلهيات، والمعاد، والنبوات، وإثبات القضاء والقدر لله تعالى... فلمَّا كان المقصِدُ الأعظم من القرآن هذه المطالب الأربعة، وكانت هذه السورة مشتملة عليها؛ لُقِّبت بأم القرآن»([4]).

3- وقال ابن جُزَي الغرناطي المالكي (ت: 741): «اعلم أنَّ المقصود بالقرآن: دعوةُ الخلق إلى عبادة الله، وإلى الدخول في دينه، ثم إنَّ هذا المقصد يقتضي أمرين لا بدَّ منها، وإليهما ترجع معاني القرآن كلِّه:

أحدهما: بيان العبادة التي دعي الخلق إليها.

والأخرى: ذكر بواعث تبعثهم على الدخول فيها وتقودهم إليها.

فأما العبادة فتنقسم إلى نوعين: وهما أصول العقائد، وأحكام الأعمال. وأما البواعث عليها فأمران، وهما: الترغيب والترهيب»([5]).

4- وقال ابن قيم الجوزيَّة (ت: 751): «وأما التوحيد الذي دعت إليه رسلُ الله، ونزلت به كتبه؛ فوراء ذلك كله، وهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في المطلب والقصد.

فالأول: هو حقيقة ذات الرب تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وعلوه فوق سماواته على عرشه، وتكلمه بكتبه، وتكليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه، وقدره، وحكمه، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جدَّ الإفصاح، كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر سورة الحشر، وأول سورة تنزيل السجدة، وأول سورة آل عمران، وسورة الإخلاص بكمالها، وغير ذلك.

النوع الثاني: مثل ما تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، وقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الآية، وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها، وأول سورة يونس ووسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام وغالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد. بل نقول قولًا كليًّا: إنَّ كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه، فإن القرآن: إما خبر عن الله، وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع كل ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي، وإلزام بطاعته في نهيه وأمره، فهي حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم»([6]).

الهوامش:

([1]) «المستصفى» 41.

([2]) «الموافقات» 4/57.

([3]) «جواهر القرآن»، تحقيق: محمد رشيد رضا القباني، دارإحياء العلوم، بيروت: 1411، 23-24. وكلام الغزالي هذا قد نقله معتمدًا عليه: إبراهيم بن عمر البقاعيُّ (ت: 885) في «مصاعد النظر للإِشراف على مقاصد السور» مكتبة المعارف، الرياض: 1408، 1/473، 3/244، 283.

([4]) «التفسير الكبير» 1/156.

([5]) «التسهيل لعلوم التنزيل»، تحقيق: د. عبد الله الخالدي، دار الأرقم، بيروت: 1416، 1/14.

([6]) «مدارج السالكين»  3/418 .

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©
تنفيذ مؤسسة المفهرس لتقنية المعلومات