الإسلام دين الله الخاتم للبشرية جمعاء ما بقيت على هذه الأرض حياة، لهذا تكفَّل الله تعالى بحفظه وصيانته، كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وكتب له العلوَّ والظهور، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، وجعل كتابه ميزان الحقِّ والهدى والخير، كما قال جلَّ شأنه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، فهذا الدين لا ينسخ أبدًا، ولا يصيبه من التحريف والتبديل ما أصاب الكتب والشرائع السابقة، «لكن يكون فيه من يُدخل فيه من التَّحريف والتَّبديل والكذب والكتمان ما يُلْبِسُ به الحقَّ بالباطل، ولا بدَّ أن يُقيم الله فيه من تقوم به الحجةُ خلَفًا عن الرُّسل، فينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ليُحقَّ الله الحقَّ، ويُبطل الباطلَ، ولو كره المشركونَ»([1]).
ولا شكَّ أنَّ التفسير النفعيَّ والسياسيَّ للإسلام ـ وهو روح الحركة الإسلامية ـ أخطر منهجٍ وفكرٍ تحريفيٍّ ينقض أو يشوه أصل الدِّين ويحرِّف دعوته عن مسارها الصحيح، وقد كان له آثارٌ سيئةٌ في عقائد المسلمين وعباداتهم وأعمالهم في العقود الأخيرة، فوفَّق الله علماء السنة، وفقهاء الشريعة؛ إلى ردِّ البدع والانحرافات الجديدة، والكشف عن عَوارها، والتَّحذير من عواقبها، فكان لصنيعهم أعظم الأثر في حفظ دين الإسلام من التحريف والتبديل. ورغم ذلك فإنَّ تلك الجهود المباركة بقيتْ في دائرة البحث في المخالفات الجزئية والتفصيلية، وبقي التفسير النفعي والسياسي للإسلام بنظريته الكليَّة وجذوره الفلسفيَّة سرًّا من الأسرار، ويرجع سبب ذلك إلى جملة أمور، منها:
1- استغناء علماء الكتاب والسنة بالاشتغال بالعلم الصحيح، والهدي النبوي، والمنهاج السلفي، ودعوة الناس إليه، وتربيتهم عليه؛ عن الخوض في القضايا الفلسفية والفكرية والثقافية التي آثارتها الحركة الإسلامية المعاصرة.
2- غموض نظرية التفسير السياسي والنفعي للإسلام، وتلطُّف أصحابها في بثِّها في الأمة، واستعمالهم في ذلك أساليب أدبية محتملة مشتبهة، فكانوا في ذلك مثل الزمخشري (ت: 538) الذي بنى تفسيره: «الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل» على أصول المعتزلة، واجتهد في بثِّ تلك الأصول في ثنايا كلامه بعبارات دقيقة، وإشارات لطيفة: «لا يهتدي أكثرُ الناس إليها، ولا لمقاصده فيها»([2]). فلا عجب؛ أن لم يهتدِ أكثر العلماء إلى جذور وأصول التفسير السياسي في كتابات الحركيين، ولا انتبهوا لمقاصدهم بها.
3- أن تصور هذه النظرية والربط بين جزئياتها وآثارها يحتاج إلى معرفة ببعض الفلسفات القديمة والحديثة، ومعرفة مقاصدها وغاياتها.
4- حُسن الظنِّ بالمسلمين، خاصة بالدعاة والكتَّاب الإسلاميين الذين اشتهرت عنهم الدعوةُ إلى تحكيم الشريعة في الأحكام السلطانية، ولقي بعضهم في ذلك أذًى من بعض الحكومات الفاسدة، فسجن بعضهم، ونفي بعضهم، وقُتل آخرون، فلم يكن من اليسير على العلماء الربانيِّين أن يظنُّوا فيهم هذا الانحراف في تفسير الدين من ظاهر بعض عباراتهم المجملة، وإشاراتهم المحتملة، خاصة أن اطلاعهم على كتاباتهم وأفكارهم كان اطلاعًا مجملًا. وقد ظهر هذا الأمر جليًّا في الخطاب الذي بعثه العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله إلى الأستاذ المودودي رحمه الله، بعد أن أخبره بعض العلماء بأن المودودي يفسِّر العبادة بالطاعة ، فاستعظم ابن باز صدور هذا القول من المودودي، فكتب إليه يقول: «وما أظن هذا الأمر يخفى على من دونكم من أهل العلم، لكن لما كان هذا الأمر قد أشاعه عنكم من أشاعه، وجب علي أن أسألكم عنه، وأطلب من فضيلتكم تفصيل القول فيه، حتى ننفي عنكم ما يجب نفيُه، وندافع عنكم على بصيرةٍ، ونوضِّح الحقَّ لطالبه فيما يتعلَّق بالجماعة الإسلامية. وإن كان ما نُسب عنكم هو كما نُسب تذاكرنا فيه، وبحثناه من جميع وجوهه، وناقشنا مواضيع الإشكال بالأدلة، والحقُّ هو ضالَّة الجميع»([3]).
هذا الاستعظام والتعجب وجدتُه عند عدد كبير من أهل العلم وطلابه الذين حدَّثتهم بهذه العقيدة الخفيَّة، ونسبتُها إلى أصحابها، وقد اطمأنت قلوبهم باطلاعهم على الأدلة والشواهد التفصيلية، ولله الحمد والمنَّة([4]).
هذه الأسباب مجتمعة أدَّت إلى عدم انتباه العلماء في العالم العربي إلى ( مقاصد الخطاب الحركي الفكر فحملوها على محامل حسنة تناسب ما ذكرناه من حسن الظن وتجري على مقاصدهم هم ظنًا منهم أنها مقاصد ذلك الخطاب. هذه الإشكالية المعرفيَّة حصلت لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت:728) رحمه الله في قراءته لتراث الصوفيِّ الضالِّ ابن عربي (ت:638) , كما اخبر بهذا عن نفسه فقال رحمه الله :
((وإنما كنت قديما ممن يحسن الظن بابن عربي ويعظمه: لما رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثير من " الفتوحات " " والكنة " " والمحكم المربوط " " والدرة الفاخرة " " ومطالع النجوم " ونحو ذلك. ولم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصوده ولم نطالع الفصوص ونحوه وكنا نجتمع مع إخواننا في الله نطلب الحق ونتبعه ونكشف حقيقة الطريق فلما تبين الأمر عرفنا نحن ما يجب علينا. فلما قدم من المشرق مشايخ معتبرون وسألوا عن حقيقة الطريقة الإسلامية والدين الإسلامي وحقيقة حال هؤلاء: وجب البيان. وكذلك كتب إلينا من أطراف الشام: رجال سالكون أهل صدق وطُلب أن أذكر النكت الجامعة لحقيقية مقصودهم))([5]).
أما في بلاد الهند؛ فقد كان الحال مختلفًا، حيث كان الخطاب الحركيُّ أكثر وضوحًا، والعلماء والكتاب أكثر معرفة بالفلسفات والمذاهب العصرية، نظرًا لما في تلك البلاد من تعدُّد في الأديان والفرق والثقافات واللغات، لهذا اكتشف عددٌ منهم هذا الانحراف في وقت مبكر، و واجهوه بالنقد والتحذير، منهم:
1- العلامة المفكر الأستاذ وحيد الدين خان، كان من أعضاء الجماعة الإسلامية في الهند، وبدأ باكتشاف الخطإ في منهج المودوديِّ سنة (1959م) ولمَّا يبلغ الخامسةَ والثلاثين، وتحاور مع كثير من قيادات الجماعة حول ذلك، وجرت بينه وبين المودودي مراسلاتٌ، فلم يجد قبولًا للنصيحة، ولا استعدادًا للمراجعة والتصحيح، فاستقال من عضوية الجماعة آخر سنة (1962م)، وسجَّل قصته مع الجماعة الإسلامية، وحواراته مع المودودي وغيره، وأورد الوثائق الخاصة بذلك في كتابه الكبير: «خطأ في التفسير»، وقد طبع باللغة العربية (1992م) في (320) صفحة. ونظرًا لكبر حجم الكتاب؛ فقد لخَّص موضوعه وفكرته الأساسية في رسالة موجزة سمَّاها: «التفسير السياسي للدين».
2- العلامة المؤرخ، والأديب البارع، الشيخ أبو الحسن عليُّ بن عبد الحي الحسنيُّ النَّدْويُّ (1332-1420/1913-1999) رحمه الله تعالى؛ تنبَّه إلى خطر التفسير السياسي في وقتٍ مبكِّر، وهو في هذا أسبق من الأستاذ وحيد الدين خان، لكن للأخير الأوليَّة في التأصيل والتقعيد للمسألة. ألقى الندوي عدَّة محاضرات ضمَّنها نقد هذا المنهج، وألَّف لذلك كتابه: «الأركان الأربعة» (1387/1967)، ثم كتابه: «التفسير السياسي للإسلام» (1399/1979)([6]).
3- العلامة الشيخ الداعية عمر بن أحمد المليباري (1345-1420/1917-2000) رحمه الله. عُني عناية بالغة بنقد المودودي وجماعته في تفسير العبادة بالطاعة، وغلوَّهم في ذلك، وكتب في ذلك (قبل: 1392/1972) إلى كثيرٍ من العلماء مبينًا هذا المنهج الجديد، ومستفتيًا لحكمهم فيه، منهم: الشيخ عبد العزيز بن باز، فأهتمَّ الشيخ بذلك وكتب كلمة في بيان معنى لا إله إلا الله، كما كتب إلى المودودي يستوضح منه رأيه في تفسير العبادة. ثم ألَّف المليباري رسالة: «معنى لا إله إلا الله»، نشرها في صيغتها الأولى سنة (1405/1985)، وفي صيغتها الثانية بطبعة خاصة سنة (1412/1992)([7]).
الهوامش:
([1]) «مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية» 11/435.
([2]) «مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية» 13/387.
([3]) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» لابن باز رحمه الله، 5/17-18.
([4]) وقال لي بعض الأفاضل: هل تقصد بعملك هذا أن هؤلاء يقومون بمؤامرة خفية لهدم الإسلام؟ فقلت له: أنا لا أدعي هذا، وكلامي لا يدل عليه، بل قد أوضحت في مقدمتي لكتابي الندوي ووحيد الدين خان أن القائلين بالتفسير النفعي والسياسي للإسلام على مراتب: فمنهم من هو على عقيدة غلاة الفلاسفة والباطنية، فهم أهل الكفر والإلحاد، ومنهم من يُثبت حقائق النبوة والعبادة والمعاد لكنه انحرف في فهم مقاصدها انحرافًا خطيرًا فوقع في البدعة والضلالة، ومنهم صحيح الاعتقاد والفهم والسلوك، لكنه لم يسلم من التأثر ببعض الأفكار العصرية في شرح حقائق الدين فوقع في بعض الأخطاء الجزئية التي لا تخرجه عن السنة والجماعة. وسأعود لشرح مراتب الناس في تفسير الإسلام في موضع آخر.
([5]) مجموع الفتاوى (2/ 464-465) مجموعة الرسائل والمسائل طبعة محمد رشيد رضا رحمه الله 1/171
([6]) تجد التعريف بجهود وحيد الدين خان والندوي وأهميَّتها بالتوثيق والتفصيل في مقدمتي لكتابيهما، نشر مركز دراسات تفسير الإسلام بالتعاون مع دار البشائر الإسلامية، بيروت: 1435/2014.
([7]) وقد صدر حديثًا عن مركز دراسات تفسير الإسلام بالتعاون مع دار لؤلؤة في بيروت، وفي مقدمتي لهذه الطبعة تعريف بجهود الشيخ المليباري رحمه الله.