انتقادات شيخ الحديث العلامة محمد الغوندلوي في كتابه «تنقيد المسائل»
لكتابات المودودي في تفسير الإسلام
ألَّف شيخ الحديث العلامة محمد الغوندلوي (١٣١٥ - ١٤٠٥) كتاب «تنقيد المسائل» (بالأردية)، انتقد فيه على بعض كتابات الأستاذ المودودي.
وبين سبب تأليف هذا الكتاب فقال:
«إن الهدف الأول لخلق الانسان هو «العبادة». قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾ [الذاريات: 56]، وهذه هي غاية بعثة الأنبياء، وإنزال الكتب السماوية. ومن زلَّ في فهم هذه القضية أخطأ في فهم الإيمان والكفر، وغيرهما من الحقائق المتباينة. وأيضًا هذا الخطأ العلمي يسبب الانحراف عن النظام العملي الذي لأجله اعتبرت المعتزلة والخوارج جميع أهل الكبائر خالدين مخلدين في النار. وقد غالى بعضُهم فقال: من لا يعتقد بذلك يجب أن يُحارَب. وقال بعضهم أشد من ذلك، وهو: من لا يحاربه يكون كافرًا أيضًا.
وقوع هذا النوع من الخطأ في الفهم يغيِّر نظام الجهد الإنساني. لأجل هذا رأيت ـ لزامًا ـ أن أوضح حقيقة هذا الأمر، حتى لا يقع العامة من الناس ـ بل خاصتهم أيضًا الذين هم في الحقيقة كالعامة ـ في هذا الخطأ»([1]).
وبيَّن العلامة محمد الغوندلوي رحمه الله أن الشيخ المودودي أخطأ في تعيين مفهوم العبادة تبعًا للفلاسفة، فخلط بين «الغاية» و«الوسيلة»، فبالتالي تتابعت الأخطاء الأخرى الكثيرة في كتاباته، وقال:
«لقد قام الشيخ المودودي ـ في زعمه ـ بإنشاء الصلة المنطقية بين أركان الإسلام، وجزئياته على النحو التالي:
1- الإسلام نظام سياسي واقتصادي.
2- العبادات كلها مقرَّر تدريبيٌّ لإقامة النظام.
3- إن الحاكم والمستحق للطاعة هو الله وحده.
وفهم الشيخ المودودي الإسلام، بعد هذا الارتباط المنطقي، على النحو التالي:
1- الإله: بمعنى المعبود.
2- العبادة: بمعنى الطاعة.
3- الطاعة: هي الامتثال بالحكم. والحاكمية خاصة بالله تعالى.
4- هذه العقيدة، هي مركز النظام الذي رتبه الأنبياء عليهم السلام وبالتالي أن الغاية الحقيقية لبعثتهم هي: «إقامة الحكومة الإلهية».
5- العبادة الأصلية هي: «إقامة الحكومة الإلهية»، وليست أركان الإسلام التي هي صور للطقوس، عبادة حقيقية وإنما هي مقررات تدريبية للعبادة الأصلية»([2]).
وصرح الأستاذ المودودي في كتاباته ما يوافق مذهب الفلاسفة في بيان غاية «العبادة»، «وبعثة الرسل»، «وإنزال الكتب»، وغيرها من الأمور، فقال:
«إن الإسلام يهدف أصلًا، إلى تخريج جماعة من الصالحين، تقوم ببناء المدنية الإنسانية، على أسس من الخير والفلاح»([3]).
وقال أيضًا: «ولتشييد هذه الحضارة، والمدنية في الأرض أرسل الله تعالى رسله تترى»([4]).
وقال أيضًا: «أريد أن أركز في أذهانكم باختصار: أن دعوة الإسلام إلى توحيد الله، وعبادته لم تكن دعوة إلى عقيدة دينية، مثل عقائد دينية أخرى، بل كانت ـ في الحقيقة ـ دعوة إلى الانقلاب الاجتماعي»([5]).
وقال: «... وكذلك اعتبرت عبادات الإسلام تعبدًا محضًا، مع أنها وسائل لإحكام الأسس الفكرية والخلقية، التي بنى عليها الإسلام نظامه الاجتماعي»([6])
أشار العلامة الغوندلوي إلى مثل هذه التصريحات الفلسفية في كتابات الأستاذ المودودي وقال:
«إن الفلاسفة يعتبرون العبادات خادمة للحضارة والمدنية، والغاية عندهم هي الحياة الاجتماعية وهي لا تقوم إلا بتوزيع الشؤون والأعمال وتفاديًا من الإفراط والتفريط، وإبقاءً للاعتدال والتوازن يحتاج إلى القانون الذي لابد أن يكون من الله، ويحتاج إلى العبادة لإنشاء الشعور بالله تعالى»([7]).
ولقد تناول العلامة الغوندلوي هذه النقاط في كتابات الأستاذ المودودي بالبحث والمناقشة، في ضوء الكتاب والسنة، ثم أكَّد على تأثره بالفلاسفة وقال:
«يرى الشيخ المودودي ـ وهو من مقتضيات ربطه المنطقي والفلسفي ـ أن العبادات الإسلامية (الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والذكر، وتلاوة القرآن) مقررات تدريبية لعبادة أصلية أخرى، هي: «تأسيس الحكومة الإلهية». ورأيه هذا، مأخوذ من ملاحدة الفلاسفة. وقد صرح أبو علي ابن سينا في «الإشارات»، وغيره من الفلاسفة في كتبهم أن العبادات خادمة للحضارة والمدنية.
وقد رد شيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية على هذا الرأي السافل، في كتابه «الرد على المنطقيين» فقال:
«المقصود هنا التنبيه على أنه لو قٌدِّر أن النفس تكمل بمجرد العلم ـ كما زعموه مع أنه قول باطل ـ فإن النفس لها قوتان: «قوة علمية نظرية»، و«قوة إرادة عملية»، فلا بد لها من كمال القوتين بمعرفة الله وعبادته. وعبادته تجمع محبته والذل له، فلا تكمل نفس فقط، إلا بعبادة الله وحده لا شريك له.
والعبادة: معرفته، ومحبته، والعبودية له. وبهذا بعث الله الرسل وأنزل الكتب الإلهية كلها تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
وهؤلاء يجعلون العبادات التي أمرت بها الرسل، مقصودها: إصلاح أخلاق النفس، لتستعد للعلم الذي زعموا أنه كمال النفس
أو مقصودها: إصلاح المنزل والمدنية، وهو الحكمة العملية.
فيجعلون العبادات وسائل محضة إلى ما يدعونه من العلم. ولذلك يرون هذا ساقطًا عمن حصل المقصود، كما تفعل الملاحدة الإسماعيلية، ومن دخل في الإلحاد، أو بعضه، وانتسب إلى الصوفية، أو المتكلمين، أو الشيعة، أو غيرهم»([8]).
ومفاد كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أن مذهب الفلاسفة، والملاحدة والإسماعيلية وغيرهم يعتبر العبادات وسيلة للحصول على علم الكشف، أو على إصلاح المنزل والمدنية.
وقول شيخ الإسلام: «ولذلك يرون هذا ساقطًا عمن حصَّل المقصود» ليس مذهبًا للجميع، بل بعضهم يوجبون العبادة بعد حصول المقصود أيضًا. وذكر الإمام ابن القيم في مدارج السالكين 1/52 فقال: «ومنهم من يوجب القيام بالأوراد، والوظائف، وعدم الإخلال بها».
المصدر:
«دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها على الحركات الإسلامية المعاصرة وموقف الخصوم منها»، للبحاثة الشيخ صلاح الدين مقبول أحمد، دار ابن الأثير، الكويت، الطبعة الثانية، 1416 ـ 1992، 1/ 258 – 263.
والشيخ محمد الغوندلوي، أو: الجوندلوي، أو الكوندلوي، ترجم له تلميذُه الأستاذ الدكتور عاصم بن عبد الله القريوتي في كتابه «كوكبة من أئمة الهدى ومصابيح الدجى» 19 - ، وقال في وصفه: «هو الفقيه المفسر المحدث المسنِد الأصولي الزاهد العلامة المفتي الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد أعظم بن فضل الدين الجوندلوي، ولد في قرية (جوندلانوالا) وهي قرية على بعد ثلاثة أميال غربي ججرانواله بباكستان يوم الخميس في شهر رمضان عام 1315، الموافق لعام 1897». وأطنب القريوتي في ترجمته، وأحسن الثناء عليه، وذكر وفاته في 14 رمضان 1405، الموافق للرابع من حزيران 1985 عن عمر يناهز تسعين عامًا.
من كتب الغوندلوي المطبوعة باللغة العربية: «إرشاد القاري إلى نقد فيض الباري»، والكتاب مجموع فوائد له، جمعها وزاد عليها تلميذه: عبد المنان بن عبد الحق النوفوري، وكتاب «فيض الباري في شرح صحيح البخاري» للشيخ محمد أنور شاه الكشميري (ت: 1352/1933). وكتاب: «مجموع رسائل في العقائد والأصول للإمام المحدث الحافظ محمد الكوندلوي»، جمعه وحققه: حافظ شاهد رفيق. وفي هذا المجموع رسالة: «تنقيد المسائل».
.......
([1]) «تنقيد المسائل» (١٥ - ١٦) طبعة غوجرانواله، باكستان
([2]) المصدر السابق (٣٤ - ٣٦).
([3]) التفسير السياسي للإسلام (١٠٨) نقلاً عن «نظرة فاحصة على العبادات الإسلامية للمودودي (٧٥/١).
([4]) موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه (32)
([5]) تنقيد المسائل (٣٤ - ٣٥) نقلا عن «تفهيمات» للمودودي (٦٨)
([6]) المصدر السابق (٣٥) نقلًا عن كتاب «المسلمون والصراع السياسي في العصر الحاضر» للمودودي (٣).