نص المنشور:
ذكر الشيخ الدكتور أسامة حدَّاد (المفتش العام للأوقاف الإسلامية في دار الفتوى في الجمهورية اللبنانية، إمام وخطيب مسجد عين المريسة في بيروت) أنه التقى في المسجد الحرام بمسلمين جدد من ألمانيا، أطباء، وبعضهم متخصص في جراحة الدماغ، وكان أحدهم قبل إسلامه يسخر من المسلمين عندما يراهم ساجدين على الأرض، ثم قرَّر أن يبحث عن فائدة هذا الفعل، فعمل دراسات دقيقة، طبية علمية، تبين له منها أن الدورة الدموية للجسد كله تكتمل عند السجود، وكلما أطال السجود تنزل الدماء على خلايا الدماغ، فإذا رفع رأسه يحدث تجديد لخلايا، مما يمنع تلف الخلايا، ويكون أبعد من الزهايمر ونحوه من أمراض الدماغ. قال الألماني المسلم: عندها أيقنت أن هذا الذي يعملونه من طَلَبَ منهم هذا؟ الله الخالقُ. فعلمت أن هذا الدين هو الدين الحق. قال: نحن نطلق على أنفسنا «مجموعة السجود». قال الدكتور أسامة حداد: شو ها الكلام، هذه روعة، قمنا من الجلسة صار سجودنا له معنى أكثر.
التعليق:
1- إن تمييز الدين الحق من الأديان الباطلة لا بدَّ أن يكون ببرهانٍ يتفرَّد به الدين الحقُّ، حتى يكون دالًّا على أحقيته ومرجحًا لموجب التصديق به واتباعه، فلا يجوز أن يكون بأمرٍ مشتركٍ بينه وبين الأديان الأخرى؛ لأنه سيتعذر التمييز والترجيح. وكثير من أحكام الإسلام هي أمور مشتركة بينه وبين الأديان الأخرى، وإنما البرهان على صحة الدين الخاتم بما تفرَّد به من البراهين؛ كالقرآن العظيم، ودلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
من هنا نقول: إن «السجود» تعبدًا ليس من خصائص دين الإسلام، فإنه موجود في أكثر أديان الأرض، بل بعض فرق اليهود والنصارى يسجدون سجودًا مماثلًا أو مشابهًا شبهًا كبيرًا بسجود المسلمين [تجد في الشبكة العالمية مقالات وصورًا كثيرة عن هذا]. فلا يجوز جعله من معايير معرفة الدين الحق.
وهؤلاء الإخوة الذين دخلوا الإسلام دخولًا صحيحًا بالتصديق بالقرآن والرسالة المحمدية والنطق بالشهادتين والتزام شعائره؛ إسلامُهم صحيحٌ، وإن كانت لديهم مفاهيم منحرفة، لكن يُخشى عليهم أن ينتبهوا إلى أن ما حملهم على الإيمان أولًا ـ وهو منفعة السجود ـ لا يعدُّ برهانًا على صحة هذا الدين؛ فينقلبوا على أعقابهم، والعياذ بالله تعالى، نسأل الله تعالى أن يثبتنا وإياهم على الحق والهدى.
2- إذا صحَّت هذه القصة، وكان أولئك القوم أسلموا بسبب اكتشافهم الفوائد الصحية للسجود؛ فقد كان الواجب على الدكتور أسامة حدَّاد أن يُصحِّح مفاهيم أولئك القوم عن السجود، فيبين لهم أن «السجود» في «دين الإسلام» إنما هو «عبادة خالصة لله عزَّ وجلَّ». وأنَّ المقصود بالسجود: هو التعبُّد لله تعالى، والتذلُّل بين يديه، والتقرب إليه، وطلب مرضاته، وإظهار محبة العبد لخالقه، وتعظيمه وتواضعه له. وأن المسلم يسجد لأن الله تعالى أمره بذلك، ولأنه سبحانه يحبُّ ذلك، ويرضاه من العبد، ويثيبه على ذلك:
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: 77].
وقال سبحانه: ﴿فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾ [النجم: 62].
وقال تعالى في صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾ [الفتح: 29].
والسجود من الصفات التي امتدح الله بها عباده المؤمنين فقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)﴾ [التوبة: 111].
وأخرج مسلم (488) من طريق معدان بن طلحة اليعمري قال: لقيت ثوبان ـ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة ـ أو قال: قلت: بأحب الأعمال إلى الله ـ فسكت. ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجة، وحطَّ عنك بها خطيئة». قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء فسألته فقال لي مثل ما قال لي ثوبان.
وأخرج ابن ماجة (1424) من حديث عبادة بن الصامت، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبدٍ يسجد لله سجدةً إلا كتب الله له بها حسنةً، ومحا عنه بها سيئةً، ورفع له بها درجةً، فاستكثروا من السجود».
وأخرج مسلم (482) من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجدٌ، فأكثروا الدعاء».
وأخرج مسلم (489) من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: «سَلْ». فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة! قال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك. قال: «فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود».
لهذا فإن الله العليَّ العظيم يغضب على العبد إن ترك السجود له، فيطرده من رحمته، ويعذبه بعذاب شديد:
قال تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (٤٣)﴾ [القلم: 42-43].
ولهذا كان السجود من صفات الملائكة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)﴾ [الأعراف: 206].
أما الامتناع عن السجود عند الأمر به فمن صفات إبليس اللعين: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١)﴾ [الأعراف: 11]. ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (٥٠)﴾ [الكهف: 50].
فهذه هي حقيقة السجود في الإسلام: أنها عبادة خالصة لله تعالى، وطاعة له، وامتثال لأمره، فالسجود من هذه الجهة مقصود لذاته، ويمكن القول بأنه «وسيلة» بمعنى أنه: طريقة شعائرية لإظهار المحبة والطاعة والخوف والرجاء والذل والخضوع والتقرب لرب العالمين، فلا يكفي وجود هذه المعاني في قلب المؤمن بالله تعالى، بل يجب عليه أن يحوِّلها إلى عملٍ ظاهرٍ فيقوم لله تعالى في الصلاة قانتًا بالتلاوة والذكر والدعاء والركوع والسجود.
3- القول بأن للسجود فوائد صحية هو في دائرة الإمكان العقلي والواقعي، فليس هو بممتنع، لكنه ـ أيضًا ـ ليس واجبًا ولازمًا، فقد يكون السجود مفيدًا أو غير مفيدٍ، لكن نحن نؤمن إيمانًا جازمًا أن كل ما أمرنا الله تعالى في شرعه، ورضيه لنا دينًا؛ فكلُّه ـ في ذاته وفي لوازمه ونتائجه وآثاره ـ حقٌّ وخيرٌ وصلاحٌ وبركةٌ ورشادٌ ومصلحةٌ ومنفعةٌ، فليس في شيء من أوامر الله تعالى الشرعية الدينية شرٌّ وفسادٌ وضررٌ أبدًا.
من هنا فلا عجب أن تثبت بعض الدراسات العلمية والطبية فوائد ومنافع نفسية وجسدية وصحية ومادية على إقامة الشعائر التعبدية. ومثل هذه الفوائد والآثار تزيد المسلم فرحًا بدين الله وشريعته، لكن لا تضلُّه عن الغاية المقصودة من التشريع والتكليف الإلهي، والغاية المقصودة للمسلم في نيته وإخلاصه وقصده وتوجهه وصلاته وركوعه وسجوده وجميع عباداته. والغايتان غايةٌ واحدةٌ، وهي عبادة الله وحده لا شريك له. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾ [الذاريات: 56]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥)﴾ [البينة: 5].
4- إن هذا الغلو في النظر إلى فوائد السجود ومنافعه الصحية والبدنية انحراف خطير في ميزان العقيدة الإسلامية، وأصله من عقيدة غلاة الفلاسفة والباطنية، الذين زعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بهذه العبادات لمصلحة الجمهور، وأنه خاطبهم وأمرهم بما تدركه أفهامهم القاصرة، ويصلح به سلوكهم، وإلا فإنه لا حقيقة لها، فهي لا تتعلق بالله تعالى، وكل ما أخبر به من الجزاء الأخروي ثوابًا على فعلها، أو عقابًا على تركها؛ فإنما هي من الأكاذيب التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم للمصلحة.
هذا دين غلاة الفلاسفة الباطنية الزنادقة كابن سينا وأمثاله. والذي نظنُّه أن أولئك المسلمين الجدد لا يعرفون هذا الباطل، ولا يقصدونه، وكذلك الدكتور أسامة حدَّاد لا يقرر هذه العقيدة الباطلة، ولا يقصد هذا المعنى الخطير، لكن الإشكال في أنَّ تقرير المنفعة المادية للسجود بهذه الطريقة، وجعلها برهانًا على صحة دين الإسلام، ومدخلًا للإيمان، واكتشافًا لحقيقة السجود وغايته ومقصوده؛ إنما يجري على هذه الطريقة الفلسفية الباطنية، وهو مدخل لها، وذريعة إليها.
إنَّ انتشار هذا المفهوم بين المسلمين يؤدي إلى إضعاف الحقائق الإيمانية والدينية الصحيحة في قلوبهم، وتشويهها في أذهانهم، وقطع طريقهم إلى الله عزَّ وجلَّ، وتقوية النزعات المادية والنفعية عندهم، وإشغالهم بها؛ مما يهيئهم لقبول النظرية الفلسفية بصورتها الإلحادية الخالصة. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وانظر أيضًا:
(ترغيب الناس بالسجود بتعظيم فوائده الدنيوية)