صلاح الآباء وأثره في صلاح الذرية تصحيحًا للمفاهيم وحفاظًا على مقاصد الدين



ينتشر في مواقع التواصل الاجتماعي وعلى ألسنة كثير من الوعاظ منشورُ نصه:

«مشروعي: أولادي.

حينما أتكاسل عن أداء النوافل أتذكر أبنائي ومصائب الدنيا!! وأتأمل قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82] فأرحمهم وأجتهد ـ تفكير مُخلص.

مشروعك الناجح هو (أولادك)، ولنجاح هذا المشروع، اتبع ما أخبرنا به الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود عندما كان يصلي في الليل وابنه الصغير نائم فينظر إليه قائلًا: «من أجلك يا بني، ويتلو وهو يبكي قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}».

وعن سعيد بن المسيب أنه كلما أراد أن يصلي قيام الليل نظر إلى ابنه فقال: «إني أزيد في صلاتي ليصلحك الله وليحفظك الله ثم يبكي وهو يتلو قول الله تعالى {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}».

نعم؛ إن هذه هي الوصفة السحرية لصلاح أبنائنا، فإذا كان الوالد قدوة وصالحًا وعلاقته بالله قوية، حفظ الله له أبناءه بل وأبناء أبنائه، فهذه وصفة سحرية و(معادلة ربانية).

كما أنه في قصة سورة الكهف حفظ الله الكنز للولدين بصلاح جدهما السابع.

ويحضرني في سياق هذا الحديث أني كنت مرة مع صديق عزيز عليَّ ـ ذو منصب رفيع بالكويت ويعمل في عدة لجان حكومية ـ ومع ذلك كان يقتطع من وقته يوميًا ساعات للعمل الخيري  فقلت له يومًا: لماذا لا تركز نشاطك في عملك الحكومي وأنت ذو منصب رفيع؟!

فنظر إليَّ وقال: أريد أن أبوح لك بسر في نفسي، إن لديَّ أكثر من ستة أولاد وأكثرهم ذكور، وأخاف عليهم من الانحراف، وأنا مقصر في تربيتهم، ولكني رأيت من نعم الله عليّ أني كلما أعطيت ربي من وقتي أكثر كلما صلح أبنائي.

اخترتها لك لأني أحب لك ما أحب لنفسي... أسعدك الله في الدنيا والآخرة وجعلك ووالديك ومن تحب من عتقائه من النار».

التعليق:

إنَّ المنافع والمصالح العاجلة المترتبة على أداء العبادات كثيرة وكبيرة ولا تحصى، وهذا من رحمة الله وحكمته في خلقه وأمره، فليست هذه الشريعة تكليفًا لا أثر له في هذه الحياة الدنيا قبل الآخرة، بل آثارها العاجلة ظاهرة بيِّنة تدلُّ على عِظَم محاسن هذا الدين وفضله على سائر الملل.

ونحن إذ نؤكد هذا، يجب أن نتنبَّه إلى الفرق بين المصالح والفوائد والثمار العاجلة والآجلة من العبادات، وبين الغايات والمقاصد التي شُرعت لأجلها أصالةً، وقلب هذه المفاهيم يُوقع في بلبلة وخلل فكري، ينتج عنه تحريف لمقاصد الدين وإفساد في الإخلاص لرب العالمين.

ومصداق وجود هذا الخلل بين كثيرٍ من الدعاة فضلًا عن العامة، أنك تجد من كان همّه النظر في الثمار والمصالح العاجلة ينتقي ما يراه مناسبًا للمصلحة المطلوبة ليجعله هدفًا وغايةً من العبادات ثم يتم تصديره للناس وتُضخَّم الدعاية حوله، بل ويكون مشروعًا للإنسان في هذه الحياة.

فمن جاعلٍ الصحة الجسدية هي المرادة من كثير من العبادات!، ومن جاعلٍ الاصلاح الاجتماعي وعمارة الأرض من مقاصد الدين!، ومن ناظرٍ إلى الأخلاق على أنها علَّة الأديان!، إلى غير ذلك من قائمةٍ تطول من الفكر المنحرف، والذي نطلق عليه «التفسير النفعي للإسلام»، الذي يجعل المنافع العاجلة هي «النظارة» التي ينظر من خلالها للدين، بينما تفسير الإسلام الصحيح، هو أنَّ كلّ هذه المنافع إنما هي وسائلٌ وثمارٌ لا تكون مقصودةً ابتداءً تعين على تحقيق الهدف الأصلي وهو التعبد لله حبًا وخوفًا ورجاءً، والتذلل له ابتغاء مرضاته وطلبًا لمغفرته وعفوه.

وما نحن بصدد نقده في هذا التعليق لا يعدو ما ذكرناه سابقًا؛ فمسألة صلاح الأولاد بصلاح آبائهم إنما هي ثمرة من ثمار العمل الصالح وليست غايةً ومقصدًا أصليًّا، وفي ضمن هذا المفهوم يتم الترغيب بها والإشادة بأهميتها، فلا يصح أن تُجعل تحت عنوان «مشروعي أولادي»، بل الصحيح أن «مشروعي عبادة ربي»، «مشروعي طلب مرضاة ربي»، «مشروعي بلوغ الجنة والنجاة من النار»، كما قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 11 - 14]، وقال سبحانه: {مَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]. هذه هي مشاريعي الحقيقية، ثم بفضل الله ومنَّه وكرمه قد يكون من ثمار هذا صلاح الأولاد والذرية، ولذلك عندما ذكر ابن رجب رحمه الله هذه المسألة احتاط فقال: «وقد يحفظُ الله العبدَ بصلاحه بعدَ موته في ذريَّته كما قيل في قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوْهُمُا صَالِحاً} أنَّهما حُفِظا بصلاح أبيهما» (جامع العلوم والحكم: 2/ 554).

ومن الأدلة على هذا؛ أنَّ هذه الثمار والمصالح قد تتخلف بينما المقاصد والأهداف الحقيقية لا يمكن أن تتخلف، فلذلك وجدنا من كان صالحًا بل نبيًّا رسولًا وولده غير صالح بل كان كافرًا: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)} [هود]، بل في نفس قصة الخَضِر وموسى عليهما السلام، وجدنا من أصلحه الله وحفظه بصلاح والده: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]، ومن كان كافرًا شقيًّا استحقَّ القتل مع أن أبويه كانا مؤمنين: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)} [الكهف].

قال ابن حجر الهيتمي: «فإن قلتَ: قد نجد في فرع العصاة صالحًا وبالعكس، ألا ترى ابن نوح وابن آدم القاتل صلى الله على آدم ونوح وسائر الأنبياء والمرسلين وسلم. قلتُ: هذا مع قلَّته لأمر باطن يعلمه الله تعالى لو لم يكن عنه منه إلا الإعلام بعجز الخلق حتى الكُمَّل منهم عن هداية أقرب الناس إليهم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي} [القصص: 56] أي لا توصل من أحببت، على أن الذي أفادته آية: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)} [النساء]، أن بعض الأصول ربما عوقب به الفروع ولا يلزم من ذلك بفرض استواء الأمرين، إلا أن صلاح الأصول ربما انتفع به الفروع فليس ذلك أمرًا كليَّا فيهما، وربما كان للفاسق ظاهرًا أعمالٌ صالحة باطنة يثيبه الله بها في ذريته فيتعين الأخذ بقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)}». (الزواجر عن اقتراف الكبائر: 1/ 23).

إذن في هذا عبرة وفائدة مهمة: أن جميع المصالح والثمار العاجلة ليست مضمونة الحصول فقد تحصل وقد تتخلف، فليست هي «معادلة ربانية» كما ذكر في المنشور، بينما نعلم يقينا أنَّ المقاصد الآجلة والغايات الأخروية لا بدَّ من حصولها وهي المرادة ابتداءً، وكل هذه لحِكَم عظيمة، وحتى لا تكون الدنيا ومصالحها وعمرانها وإصلاحها، هدفًا للمسلم بله أن تكون علَّة لخلقه وتكليفه.

أما التعبير بالوصفة السحرية في المسائل الاعتقادية والشرعية؛ فقبيحٌ جدًّا، ويجب على المسلم مجانبته وعدم خلطه بالألفاظ الشرعية.

2- وهنا لفتة مهمة وهي: أنَّ من طلب ابتداءًّ هذه المصالح وكانت هي غايته فإنها غالبًا لا تحصل له، لأن في ذلك قدحًا في إخلاصه وحقيقة تعبده لله، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والمقصود هنا بيان ما دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع من أن‌‌ إخلاص الدين لله هو أصل كلِّ علم وهدى. وفي الحديث [يعني: حديث «من أخلص لله أربعين يوما ظهرت ‌ينابيع ‌الحكمة على لسانه» وهو ضعيف، انظر: «السلسلة الضعيفة» (38)] حكاية بلغَتْنا لا أعلم إسنادها هو ثابت أم لا، لكن المعنى المقصود منها صحيح، وهو أنَّ أبا حامد الغزَّالي قال: لما بلغني هذا الخبر أخلصتُ أربعين صباحًا، فلم أجد شيئًا، فذكرت ذلك لبعض شيوخ أهل المعرفة، فقال لي: يا بُنيَّ، إنك لم تخلص لله، وإنما أخلصتَ للحكمة. فإن هذا المعنى حق، وهو أن‌‌ الواجب أن يكون الله هو المقصود والمراد بالقصد الأول، ثم الحكمة وغير ذلك يتبع ذلك، لا أن يكون غيره هو المقصود بالقصد الأول، ويجعل قصد الله وسيلة إلى ذلك». (جامع المسائل: 6/ 136).

3- أما ما يذكر من آثار عن بعض السلف في هذا الباب فهي غير معصومة ولا يلزم منها قاعدة عامة أو أن تكون حجَّة في جعل المشروع والغاية الذي خلق لأجله الإنسان هو صلاح أولاده، وهذا من الناحية العلمية الأصولية، وأما من ناحية صحة هذه الأثار، فأثر ابن مسعود رضي الله عنه لم أجد له أثرًا بعد التفتيش والبحث، وأما أثر سعيد بن المسيب فقد أخرجه الثعلبي في تفسيره 17/232 بسند فيه مجهول، والثعلبي معروف بكثرة روايته للضعيف والموضوع، فقد كان يروي ما هب ودب. والله تعالى أعلم.

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©