العشر الأواخر وقت العبادات المحضة لا مطلق الأعمال الصالحة



نص المنشور:

«لا تبحثوا عن ليلة القدر بين أعمدة المساجد فحسب، بل ابحثوا عنها في رضا أب وأم وأخ وأخت، في صلة رحم، وإطعام مسكين، وكسوة عارٍ، وتأمين خائف، ورفع مظلمة، وكفالة يتيم، ومساعدة مريض، وتفريج كربة. ابحثوا عنها في رضا الرب والإقلاع عن الذنب في ضمائركم قبل مساجدكم.. فصنائع المعروف تقي مصارع السوء».

التعليق:

انتشرت هذه الكلمة في وسائل التواصل الاجتماعي، وأعاد نشرها عشرات الأشخاص في (تويتر)، يأخذ بعضهم عن بعض تقليدًا واستحسانًا، دون إدراك لما في هذه الكلمة من انحراف عن منهاج السنة ومقاصد الشريعة. ونظرًا لأهمية هذا الموضوع رأينا التنبيه على ما في هذه الكلمة من خطأ وخطورة، فنقول:

1- إن الله تعالى جعل لكل وقت وموسم ما يخصه من العبادات والأعمال الصالحة، فأفضل الأعمال وأولاها ما كان في زمانه المعيَّن ومكانه المعيَّن وبصفته المعيَّنة من قبل الشارع الحكيم. وما أحسن ما نبَّه عليه بعض العلماء، وذكره ابن القيم على لسانهم، مستحسنًا له، فقال:

«قالوا: إنَّ أفضلَ العبادة العملُ على مرضاة الرَّبِّ تعالى في كلِّ وقتٍ بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته:

1- فأفضلُ العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة اللّيل وصيام النّهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن.

2- والأفضل في وقت حضور الضيف مثلًا: القيامُ بحقِّه والاشتغال به عن الورد المستحبِّ. وكذلك في أداء حقِّ الزّوجة والأهل.

3- والأفضلُ في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل: الإقبالُ على تعليمه والاشتغال به.

4- والأفضل في أوقات السَّحَر: الاشتغالُ بالصلاة، والقرآن، والدُّعاء والذِّكر.

5- والأفضل في وقت الأذان: تركُ ما هو فيه من ورده، والاشتغالُ بإجابة المؤذِّن.

6- والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجِدُّ والنُّصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرةُ إليها في أول الوقت، والخروجُ إلى الجامع ـ وإن بعُدَ ـ كان أفضل.

7- والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال: الاشتغالُ بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك.

8- والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعيَّةُ القلب والهمَّة على تدبُّره وتفهُّمه، حتى كأنَّ الله تعالى يخاطبك به، فتجمَعُ قلبَك على فهمه وتدبُّره والعزم على تنفيذ أوامره أعظمَ من جمعيّةِ قلبِ مَن جاءه كتابٌ من السُّلطان على ذلك.

9- والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهادُ في التّضرُّع والدعاء والذكر دون الصَّوم المُضْعِف عن ذلك.

10- والأفضل في أيام عشر ذي الحجّة: الإكثار من التّعبُّد، لا سيَّما التَّكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المتعيِّن.

11- والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزومُ المسجد فيه، والخلوةُ والاعتكافُ دون التّصدِّي لمخالطة النّاس والاشتغال بهم، حتَّى إنَّه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلمَ وإقرائهم القرآنَ عند كثيرٍ من العلماء.

12- والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادتُه، وحضورُ جنازته وتشييعه، وتقديمُ ذلك على خلوتك وجمعيَّتك.

13- والأفضل في وقت نزول النَّوازل وأذى النَّاس لك: أداءُ واجب الصَّبر مع خلطتك لهم، دون الهرب منهم، فإنَّ المؤمنَ الذي يخالط النّاس ويصبر على أذاهم أفضَلُ من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه. والأفضل خلطتهم في الخير، فهي خيرٌ من عزلتهم فيه. وعزلتُهم في الشَّرِّ، فهي أفضل من خلطتهم فيه. فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فهي خيرٌ من عزلتهم.

فالأفضلُ في كلِّ وقتٍ وحالٍ: إيثارُ مرضاة الله تعالى في ذلك الوقت والحال، والاشتغالُ بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه...» (مدارج السالكين، دار عطاءات العلم، الرياض، 1441، 1/134 - 138).

قلت: ما ذكره ابن القيم رحمه الله على وجه الإجمال يعرف بالأدلة التفصيلية من السنة القولية والعملية، ويطول المقام بذكرها، فلتراجع في مظانها من كتب السنة، منها كتاب: «الترغيب والترهيب» للمنذري رحمه الله تعالى.

2- أما ما ذكره ابن القيم بقوله: «والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزومُ المسجد فيه، والخلوةُ والاعتكافُ دون التّصدِّي لمخالطة النّاس والاشتغال بهم، حتَّى إنَّه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلمَ وإقرائهم القرآنَ عند كثيرٍ من العلماء»؛ فقد عُلم بالسنة المتواترة أن العشر الأواخر عامة، ولياليها خاصة، وليلة القدر منها على وجه أخص؛ أوقات مباركة، تختصُّ بالعبادات المحضة، وهي الصيام والقيام والاعتكاف وقراءة القرآن والذكر والدعاء. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في هذه الأيام، أي يحبس نفسه في المسجد، ويجمع همته على العبادات المحضة، كما قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر ‌شدَّ ‌مِئْزَره، وأحيا ليلَه، وأيقظ أهلَه. (أخرجه البخاريُّ).

وعلى هذا مضى الصحابة الكرام والعلماء والصالحون في كل عصر ومصر، فدعوة عوام المسلمين إلى الانشغال في هذه الأيام عامة، وفي هذه الليالي الفاضلة خاصة؛ بصلة الأرحام وتفقد أحوال المحتاجين... إلخ؛ هذه الدعوة هي في الحقيقة انحراف عن مقصود الشارع الحكيم من هذه الليالي، وإشغال للمسلمين بالمفضول في هذا الوقت عن الأفضل والأهم فيه، ومخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإدخال للقلق والاضطراب على المسلمين بدلًا من حثهم على جمع همتهم على العبادة المحضة، أما الأعمال الصالحة فلها وقتها، وهو وقت واسع على مدار العام.

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه» (أخرجه البخاري ومسلم)؛ ولم يرشد صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة المباركة إلى شيء من تلك الأعمال الصالحة التي يحث عليها اليوم بعضُ الدعاة.

وعندما سألتْ عائشةُ رضي الله عنها عمَّا تقول في هذه الليلة فأرشدها إلى الدعاء المشهور بين الناس اليوم: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» (أخرجه الترمذي وصححه)، ولم يرشدها لشيء من الأعمال الصالحة.

3- والمقصود التنبيه على بطلان هذه الدعوة التي تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي، ومخالفتها للسنة، وأثرها السيِّء على إقبال المسلمين على العبادات المحضة التي هي المقصودة أصالةً، ومن أجلها خلق الله الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، ووضع الشريعة.

أما الأعمال الصالحة؛ فهي بالنسبة إلى العبادات المحضة مقصودةٌ بالتبعية لها، ويمكن للمسلم أن يقوم بما يتيسر له منها في نهار رمضان ـ إن لم يكن معتكفًا، فإن اعتكف فذلك خير له وأحسن ـ، كما يستطيع القيام بها في سائر أيام السنة، بخلاف قيام ليالي العشر ـ تحريًّا لليلة القدر، وطلبًا لفضلها، وعظيم الأجر فيها ـ فإن وقتها ضيِّق، ولا يستطيع استدراكها في بقية ليالي السنة.

4- ونختم بالتنبيه على مسألة دقيقة، يجب أن ينتبه إليها ويتيقظ لها أهلُ العلم وطلابه؛ وهي: أن انتشار مثل هذه الكلمات واحتفاء أكثر الناس بها إنما هو بسبب النزعة النفعية والمادية في تفسير الدين ومقاصده التي ظهرت بقوة في العصر الحديث، حتى رسخ في أذهان كثير من المسلمين أن المقصود من تشريع العبادات والأعمال الصالحة السعادة الدنيوية والتعاون الاجتماعي والمصالح الإنسانية الدنيوية، لهذا تجدهم تضيق صدروهم من «العبادات المحضة» التي هي حقٌّ خالص لله تعالى، وهي المقصود الأصلي من الديانة والتكليف الإلهي، فلا يطيقون أن تبقى تلك العبادات على مقصدها الأصلي الذي أراده الله تعالى وأمر به، فيريدون أن تُحوَّل إلى «الأعمال الصالحة» التي يقصد بها نفع العباد نفعًا ماديًّا مباشرًا في الدنيا.

ولا يغرنَّك ـ يا طالب العلم ـ أن الدعاة إلى هذا يؤكدون على النية والإخلاص لله في الإتيان بتلك الأعمال، فليس هذا موضع الخلاف، بل لاحظ مقصدهم الأصلي في تحقيق تلك الأعمال للمنفعة والمصلحة المباشرة للخلق، وتأكيدهم عليها حتى في مثل «قيام ليلة القدر»، وكأنه قد ضاق عليهم أن يتوجَّه العباد إلى ربهم ليلةً أو ليالٍ معدودة، محدودة الساعات، بعبادة خالصةٍ لربهم محبةً له سبحانه وخوفًا ورجاءً وتعظيمًا وإجلالًا؛ فزاحموا ذلك باختراع هذه الفكرة: (لا تبحثوا عن ليلة القدر بين أعمدة المساجد)، وهي فكرةٌ ـ وإن لم يعلموا، أو لم يقصدوا ـ خبيثةٌ ماكرةٌ، وسوس بها الشيطانُ إليهم، ليصدَّ الناس عن إخلاص العبودية لربهم على الوجه الذي يحبُّه ويرضاه، وهذا دأبه كما أخبر الله تعالى عنه: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [سورة الأعراف]، لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الشيطانَ قعد لابن آدم ‌بأَطرُقه ‌كلِّها» (أخرجه أحمد والنسائي)، فها هو قد قعد له في طريقه إلى ليلة القدر، حيث رضوان الله ومغفرته، يشتت قلبه، ويشغله عنها بالمفضول، والله المستعان.

بقلم: الشيخ عبد الحق التركماني

في: 24 رمضان 1442 هـ الموافق: 6 مايو 2021 م

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©