تعقبات على مقال (لا تحدثني عن الدين.. بل دعني أراه فيك)



نص المنشور:

كتبت منال الشيخ في جريدة أخبار الخليج على موقعها الإلكتروني بتاريخ 29 / أبريل /2020 مقالًا بعنوان: «لا تحدثني عن الدين.. بل دعني أراه فيك»، قالت فيه ما نصه:

«أتعجب حقيقة من أناس يتحدثون عن أمور تخص الدين الإسلامي ويحثون غيرهم على فعلها وهم لا يطبقونها أساسًا.. فما أكثر الذين يتحدثون عن فضل صلاة الفجر في وقتها وهم لا يطبقون ذلك.. وما أكثر الذين يتحدثون عن الصدقة وأجرها العظيم وهم لا يتصدقون وعن زكاة الأموال وهم لا يزكون وعن صلة الرحم وهم لا يصلون أرحامهم وعن بر الوالدين وهم عاقون وغيرها من الأمثلة.. فالدين الإسلامي ليس صلاة وقراءة قرآن ومكوثًا في المسجد لساعات لنيل مرضاة الله وكسب الأجر والثواب من المولى سبحانه وتعالى.. لا.. الدين هو الأخلاق وصلة الأرحام والمعاملة الحسنة. نصيحة من القلب لكل من يتحدث عن الدين ولا يطبقه.. كلنا مسلمون وربنا واحد سبحانه.. فلا تتفاخر وتتحدث عن الدين وما يتعلق به وأنت لا تطبق ذلك.. بل اجعل من يراك يرى الدين فيك.. من خلال أخلاقك العالية وعطفك على الصغير وتوقيرك للكبير وإحسانك لليتيم.. فالدين عظيم.. ويكفي أن الدين (معاملة وأخلاق)».          

التعليق:

1- لا شك أن الداعي إلى الله يجب أن يتحلى بما يدعو له بحسب استطاعته، خصوصًا فيما يتعلق بالعبادة التي خلق الله الإنس والجن لأجلها، وأن مخالفة الحال للمقال يعود على الدعوة بالخسران ومن الله المقت والنكران قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} [البقرة: 44]، ولكن ينبغي التنبيه على أنه «ليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أُمِر به أنه يترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبَيْنِ، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمر غيره ونهيه، وأمر نفسه ونهيها، فترك أحدهما لا يكون رخصة في ترك الآخر، فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبَيْنِ، والنقص الكامل أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر فليس في رتبة الأول وهو دون الأخير، وأيضًا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قولَه فعلَه، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة». [تيسير الكريم الرحمن 1/51. ط. دار ابن الجوزي].

2- كثيرٌ من الكتَّاب يستغل هذه الثغرة عند بعض مُدَّعي الوعظ والإرشاد عندما يرون عدم مطابقة قولهم لعملهم ليعمم ذلك، ثم يؤسس لمعتقد ومنهج جديد يحرِّف فيه مفهوم الدين ـ بقصد أو من غير قصد ـ وهذا المقال الذي معنا مثالٌ حيٌّ لهذا الاستغلال، فانطلاقًا من هذه المشكلة تصرح الكاتبة بأنَّ: (الدين ليس صلاة وقراءة قرآن ومكوثًا في المسجد لساعات لنيل مرضاة الله وكسب الأجر والثواب من المولى سبحانه وتعالى)، معرضةً عن كلِّ النصوص من القرآن والسنة، الصريحة بأن عبادة الله وطاعته هي أحب الأعمال إليه، وأنَّ نيل رضاه لكسب الأجر والثواب غاية مقصودة لنفسها، وذلك لتجعل مكانها (الأخلاق وصلة الأرحام والمعاملة الحسنة)، وتصبح العبادات وسائل لا أكثر لتحقيق هذا المفهوم الجديد للدين، وهذه هي حقيقة التفسير النفعي للدين، الذي يدعو له كثيرٌ من الإسلاميين وغير الإسلاميين، ممن لا يرون فائدة في الدين إلا ما يعود على المعاملات الدنيوية والأخلاقية بين الناس وعمارة الأرض وإصلاحها، وهو ما كان يدعو له الفلاسفة قديمًا من أمثال ابن سينا والفارابي وغيرهم من أنَّ الدين غايته سياسة الجمهور وإصلاح الأرض لا أكثر.

3- للعبادات والأعمال الصالحة آثارًا حسنة في صلاح القلوب وتزكيتها وتقويم السلوك وتحسينها، لكن المبالغة في أمر هذه الآثار، بل والتصريح بأنَّ [العبادات وطلب الثواب والأجر ليست هي الدين، وأنه يكفي أن نعلم أن الدين معاملة وأخلاق]، هذا كله يفتح بابًا لتحريف الدين، وهو مخالف لمنهج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في تعليم الأمة وإرشادها لأفضل الأعمال، ومنهجه صلَّى الله عليه وسلَّم هو الأعلم والأحكم والأقوم، ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: سَألتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم: أيُّ العملِ أحبُّ إلى اللهِ؟ قال: «الصَّلاةُ على وقتِها»، قال: ثمَّ أيٌّ؟ قال: «ثمَّ برُّ الوالدينِ»، قال: ثمَّ أيٌّ؟ قال: «الجهادُ في سبيل اللهِ»، وفيهما ـ أيضًا ـ عن أبي هريرة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سئل: أَيُّ العملِ أَفْضَلُ؟ فقال: «إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ». قيل: ثُمَّ ماذا؟ قال: «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ» قيل: ثُمَّ ماذا؟ قال: «حَجٌّ مَبْرُورٌ»، وفيهما كذلك عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أيُّ العملِ أَفْضَلُ؟ قال: «إِيمَانٌ بِاللهِ، وجهادٌ في سبيلِهِ»، قلتُ: فأيُّ الرِّقابِ أفضَلُ؟ قال: «أعْلاَهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا»، قلتُ: فإنْ لم أفْعَلْ؟ قال: «تُعِينُ ضَايِعًا، أو تَصْنَعُ لأخْرَقَ»: قال: فإنْ لم أفْعَلْ؟ قال: «تَدَعُ النَّاس من الشَّرِّ، فإنَّهَا صدَقَةٌ تصدَّقُ بها على نفْسكَ»، إذن «نستفيد من هذه الأحاديث تعظيم الأعمال الظاهرة، خاصة العبادات، وعلى رأسها الفرائض، فهي معظمة ومقصودة ومرادة لذاتها، تعبدًا لله تعالى وتقربًا وطاعة لأمره وامتثالًا لشرعه، وإيمانًا بأن الله تعالى يريدها ويحبها ويرضى عن فعلها، واحتسابًا للأجر العظيم والثواب الجزيل الذي رتبه الله تعالى على نفس هذه الأعمال، فمن نظر في نصوص الكتاب والسنة علم علمًا يقينيًّا أن الأعمال الظاهرة مقصودة للشارع الحكيم، قصدًا مستقلًّا بعد شرط النية والإخلاص».

4- إن مشكلة هؤلاء الناس هو عدم فهمهم لخصوصية هذا الدين و«أن الالتزام بالإسلام هو ـ ابتداءً وأساسًا ـ واجبٌ فرديٌّ، ومسؤوليَّة شخصية، يتديَّن به الإنسانُ في باطنه الذي لا يطَّلع عليه أحدٌ سوى الله عز وجلَّ، وفي ظاهره بحسب الممكن له من العلم والقدرة، أما الالتزام بالإسلام على المستوى الجماعي، [من الأخلاق العالية والعطف على الصغير وتوقير الكبير والإحسان لليتيم وغير ذلك]، وتنفيذ أحكامه على المجتمع من خلال السلطة والدولة؛ فهو ثمرة ونتيجة لذلك الالتزام الفرديِّ [إن أداه كما ينبغي]، فجاء التفسير السياسي والنفعي للإسلام ليقلب هذه الحقيقة الدينية الكبرى رأسًا على عقبٍ، فأصبح الالتزام الجماعي هو الأصل والأساس، وهو المقصد والغاية، وأصبح الالتزام الفردي تبعًا لذلك، وفي ضوء هذا نستطيع أن نفهم مظاهر رقَّة الدين وضعف الالتزام وعدم العناية بالعبادات والسنن وتتبع الشذوذات والرخص عند حاملي هذا الفكر المنحرف»، ولذلك عندما تسمع من يقول: (لا تحدثني عن الدين.. بل دعني أراه فيك)، فاعلم أن العبادات وأركان الإسلام عن هؤلاء قيمتها فيما يجدونه من آثارها ونتائجها في الدنيا، فإذا حدث وأن تخلفت تلك النتائج عند البعض، فلا داعي للحديث عن الدين وأركانه لأنَّ الغاية عندهم لم تتحقق، والله المستعان.

5- يظهر هذا المقال تأثير المذاهب البراغماتية والنفعية في كثير من المثقفين من المسلمين، وهي مذاهب خبيثة مخالفة للدين والفطرة والعقل، حيث تجعل معيار الحقِّ في المنفعة، فالحقُّ ما كان نافعًا في الواقع ـ سواء كان موافقًا لدين الله أم مخالفًا ـ والباطل ما لم تتحقق منفعته في الواقع، وإن كان في نفسه ـ بحكم الدين والفطرة والعقل ـ هو الحقُّ المحض. إن البرغماتية والنفعية مذاهب مادية ظهرت في الغرب مع انحسار التدين، وظهور المذاهب الإلحادية والنزعات المادية المحضة، وبحكم قوة تأثير الثقافة الغربية صار للبراغماتية والنفعية تأثير قوي في المسلمين، ويظهر أثره في هذا المقال، وأمثاله، والله المستعان.

راجع للمزيد:

- (المراد الأهم من العبادات بين الطاعة وجمع الحسنات).

- (منافع العبادات وترتيب الأولويات).

- (المداومة على العبادة والراحة النفسية).

-(الدكتور حسام موافي وتقديم جبر الخواطر على أركان الإسلام(.

- (مذاهب الناس في منفعة العبادة وحكمتها).

- (هل هدف الرسالة هو إصلاح الأخلاق؟).

- (كونوا جيدين وحسب!).  

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©