تعاليم القرآن الحقيقية



انتشرت في عددٍ كبيرٍ من وسائل التواصل الاجتماعي وفي المجلات والقنوات الاخبارية والمواقع الإلكترونية، دراسةٌ أعدها كاتب نصراني كان عنوانها:

(إيرلندا في المرتبة الأولى والسعودية 91 ومصر 128 في تطبيق مبادئ الإسلام)

نص المنشور:

(كشفت دراسة أعدها الباحث البريطاني بول هوسفورد ونشرت في صحيفة «ذي جورنال» أن إيرلندا هي البلد الأكثر تطبيقًا لتعاليم القرآن الكريم على مستوى العالم، في حين لم تتضمن القائمة أي من الدول العربية.

وحسب الدراسة، فقد احتلت إيرلندا المرتبة الأولى كأكثر الدول التي تطبق تعاليم الديانة الإسلامية، متبوعة بالدنمارك، ثم السويد في المرتبة الثالثة.

وشمل البحث 208 دول، غابت فيها الدول ذات الغالبية الإسلامية من السكان عن قائمة أفضل (25) بلدًا تطبيقًا للإسلام. وأتت ماليزيا في المرتبة الـ (33)، ولكنها احتلت المرتبة الأولى للدول ذات الغالبية الإسلامية، أما بالنسبة للدول العربية فقد حلت الكويت في المرتبة الـ(48)، متبوعة بالبحرين في المرتبة الـ(61) والامارات في المرتبة الـ(64)، فيما جاءت المملكة العربية السعودية في المرتبة الـ(93)، وقطر في المرتبة الـ(111)، فيما تذيلت السودان قائمة الدول العربية حيث حلت في المرتبة الـ(190).

وتم ترتيب الدول باعتماد «معيار الإسلامية» المبني على أربعة قواعد، هي: الإنجازات الاقتصادية، والحقوق الإنسانية والسياسية، والعلاقات الدولية للبلد، إضافة إلى بنية السلطة فيه).

التعليق:             

1- ليس العجب أن تصدر مثل هذه الدراسات عن كتَّابٍ نصارى ليسوا بمسلمين، فإن الله يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، ولكن العجب أن يتلقف المسلمون مثل هذه الدراسات، ويصدقونها ويطيرون بها في كل مكان، وكأنها وحي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}، دون تمحيص ولا تدقيق في حقيقتها أو موضوعها ومنهجها.

2- غالب آيات القرآن الكريم تتحدث عن العقيدة ولوازمها، وأساس العقيدة: بيان حق الله في افراده بالعبادة والتعظيم وتوحيده بصفات الجلال والكمال وغيرها، وذلك من حيث الأمر والترغيب بها، والنهي والترهيب عما يضادها، وأخبار الأمم السابقة في قبولها أو ردها وما حل بهم بعد ذلك، فلو طبقنا هذه المعايير ـ التي هي تعاليم القرآن حقًا ـ، فهل ستحتل الدول التي تعتقد أن الله رب العالمين: ثالث ثلاثة!، وأنه كان محشورًا في جوف امرأة ثم خرج منها كما يخرج كل البشر!، ثم بعد ذلك صلبه اليهود من غير حول منه ولا قوة! تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، فهل ستحتلُّ مثل هذه الدول المرتبة الأولى في تطبيق تعاليم القرآن؟!

3- إن عدد آيات القرآن يزيد على ستة آلاف آية، وعدد آيات الأحكام منها لا يزيد عن خمسمائة آية، وغالب آيات الأحكام تتحدث عن العبادات التي مدارها وأسُّها توحيد الخالق بالتعظيم والاجلال، والمعايير التي اعتُمدت في هذه الدراسة هي الجزء الصغير المتبقي من آيات الأحكام، وعند وقوفنا عند هذه الحقائق ندرك تمامًا ماهي مصداقية قولهم: أكثر الدول تطبيقًا لتعاليم القرآن!!

4- بنت هذه الدراسة المزعومة معاييرها على فهمٍ خاطئٍ لتعاليم القرآن، وذلك انطلاقًا من القاعدة اليهودية: (الغاية تبرر الوسيلة)، فالإنجازات الاقتصادية في هذه الدراسة هي الغاية بغض النظر عن الوسيلة التي تحققها، سواءً كان بما أباحه الله أو بما حرمه!! بينما تعاليم القرآن كانت تصب في تنظيم هذه المعاملات ووضع القيود لتصحيحها، وإلا فهي معاملات فاسدة وإن تحقق من ورائها نفع عاجل، وذلك بغية الوصول لتحقيق العدل في المجتمع ومنع الظلم، ولتكون وسيلةً وعونًا لبلوغ الغاية من الخلق، ألا وهي تحقيق العبودية لله بأكمل وجوهها، فلذلك حرم الله الربا فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130]، وغالب اقتصاد دول الكفر قائمٌ على الربا. وحرم أكل المال بالباطل فقال: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]، وغالب أماكن القمار والمراهنات وأكل المال بالباطل هو في دول الكفر والضلال.

5- أما الحقوق السياسية المزعومة فيكفي أن من أهم تعاليم القرآن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، فليس في تعاليم القرآن أحزاب سياسية متقاتلة على السلطة، وليس في تعاليم القرآن ثورات ومظاهرات.

فعن ابن عبَّاسٍ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». أخرجه البخاري (7053).

وعن شريح بن عبيد قال: قال عِيَاضُ بن غَنْمٍ لهشَامِ بن حَكِيمٍ: ألم تَسْمعْ بقول رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِذِي سُلْطَانٍ؛ فَلا يُبْدِهِ عَلانِيَةً، وَلَكِنْ يَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوا بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ». أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (1130)، وقال الألباني: إسناده صحيح.

كل هذه التعاليم هدفها تحقيق الأمن والأمان في المجتمع، وليس إثارة الفتن والفساد في الأرض لتحقيق المكاسب السياسية على حساب أمن البلاد والعباد.

6- كانت الروم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من التقدم الحضاري والاقتصادي بمكان، ومع ذلك لم يجعل هذا الازدهار الزائف ملكها الكافر ـ هرقل ـ ينخدع، فكان أكثر وعيًا من هذا الدَّارس، فعندما سألَ أبا سفيان عن عدة أشياء تتعلق بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ـ كلها كانت تصب في التحقق من صدقه عليه الصلاة والسلام ـ، ختمها بسؤاله عن مضمونها فقال: «وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ». أخرجه البخاري (7). ففهم هرقل أن دعوة التوحيد وما يتبعها من الصلاة والصدق والعفاف سيكون من ثمارها ملك المسلمين لبلاده، وهو ما تحقق فعلًا في عهد عمر رضي الله عنه لما فتح الشام وغيرها، وهو الذي قصر فيه المسلمون الآن فكان حالهم هذا الحال، وتأمل فيما فعله الله تعالى بالكفار عند غفلتهم وتخلفهم عن الآخرة وعن الغاية التي خلقوا لها، فقال: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].

7- إنَّ التقدم الاقتصادي متى ما أصبح صادًا عن تحقيق التوحيد وداعيًا إلى الانغماس في الحياة الدنيا ونسيان الآخرة، فإنه شرٌ وبلاءٌ وإن كان ظاهره المتعة والرفاهية، قال تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران]، فتأمل كيف ذكر الله تعالى ـ بعد تحذيره من الاغترار بحال الكفار في تمتعهم بالحياة الدنيا وزينتها ـ، ما وعد به المتقين في الآخرة من النعيم المقيم، ولم يذكر الدنيا لأن الأصل هو العمل للآخرة، حتى لو فرض جدلًا أن المتقي ليس له نصيب في الدنيا، قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]، فكيف أذا علمنا أن الله وعدنا بالرفعة في الدنيا كذلك، والتمكين إذا حققنا أمره بالإيمان والعمل الصالح، فقال:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]، وقد حذر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمته من شر هذا الازدهار لا ليتقاعسوا عن العمل واصلاح دنياهم، بل ليكونوا حذرين من الانحراف عن الغاية التي خلقوا من أجلها بزخرف من الحياة الدنيا فقال عليه الصلاة والسلام: «فَوَاللهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ». أخرجه البخاري (6425). والله أعلم.

راجع للمزيد:

-(موجز بأهم مناهج تفسير الإسلام).

-(إرادة الدنيا وإرادة الآخرة ... العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله).

-(عمرو خالد وحكمة الخلق).

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©