الشيخ العلامة أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري حفظه الله



الشيخ العلامة أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري حفظه الله

تاريخ اللقاء: ليلة الأربعاء ٢٦ ذي الحجة ١٤٣٩ الموافق ليلة الخامس من سبتمبر ٢٠١٨

 

الشيخ عبد الحق التركماني: فضيلة الشيخ ـ حفظكم الله ـ هناك في كتابات المفكرين الإسلاميين المعاصرين مفهوم عام منتشر في الكتب وفي الخطب وفي الدروس، وهناك تصريحات واضحة ـ نصوص صريحة ـ بأن العبادات غير مقصودة لذاتها، وأنها وسيلة لعمارة الأرض وإقامة عدل الدنيا. يعني مثلًا حسن البنَّا يقول: العبادات الأصلية في الإسلام هي وسيلة لإقامة النظام الاجتماعي. ويقول سيد قطب: العبادات الأصلية كالصلاة والصيام مقصودة بالتبعية لا بالأصالة. ثم يشرح ويبين أن المقصود أصالةً عمارةُ الأرض. ومحمد قطب في كتابه: (التربية الإسلامية) يصرح بأنَّ العبادة التي هي غاية الخلق ليست مقصودة لذاتها بل هي وسيلة لإصلاح المجتمع. ماذا تجيبون على هذه النظرية في تفسير الإسلام، وهل لها جذور فلسفية في علاقتها بطروحات الفارابي وابن سينا فيما يتعلق بالمدينة الفاضلة، وأن الأنبياء جاؤوا لإصلاح الجمهور؟

جواب الشيخ ابن عقيل الظاهري:

أول شيء أنا أسأل سؤالًا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات]. هل العبادة مقصودة لنفسها أم لا؟! ربِّي لم يخلقهم إلا لعبادته وهو الغني الحميد جلَّ جلاله، ومع أنه الغني الحميد مستغنٍ، من رحمته لا يرضى لعباده الكفر: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147]، يقال لهم الآن لـمَّا يقول ربِّي: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، هل ربي قصد خلق هذا الكون كله سمائه وأرضه وهوائه خلقهم لماذا؟! ليعبدون. كيف يقولون العبادة غير مقصودة لنفسها، أنا بوُدِّي ـ لكي أعرف ـ هل أصابوا أم أخطؤوا، كيف يجيبون عن هذه الآية وآيات كثيرة أيضًا.

الشيخ عبد الحق التركماني: هم كأنهم يجعلون الفوائد والثمار المترتبة على العبادة يجعلوها مدخلًا لتحريف المقصد الأصلي.

الشيخ ابن عقيل الظاهري: هذا شيء آخر!

الشيخ عبد الحق التركماني: فيقولون انظر العبادات لها منافع صحية واجتماعية.

الشيخ ابن عقيل الظاهري: هذا لا خلاف فيه، لكن هذا لا يسقط أن الله سبحانه وتعالى الغني الحميد الكبير المتعال في غنًى عن الناس جنهم وإنسهم وملائكتهم، قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، العبادة مقصودة لنفسها، لكن كون العبادة يترتب عليها مصالح؛ هذه نعمة من الله تَبِعَتْ ما كان مقصودًا، وأضرب المثال بأشياء كثيرة:

منها: ثبت علميًّا وطبيًّا أن الإنسان إذا أطال السجود يحصل له تفريغ للشحنات، هذه واحدة.

الثانية: قالوا: إن كثرة الركوع والسجود وإطالته يعطي الجسم قوة وانطلاقة، وفيه منافع صحية كثيرة.

الصيام ـ أيضًا ـ نفسه يقولون: يترتب عليه مصالح، [التخلص من] فضلات الطعام وغيرها فيه نشاط. نقول: نحمد الله، هذه الله سبحانه وتعالى الذي أمر: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، وأَتْبَعَ لعبادته أشياءَ نافعة دنيوية، الصيام هل نصوم إذا جاء رمضان، أو صمنا تطوعًا، نقول: صمنا نريد العافية؟! [بل] صمنا لأجل وجه رب العالمين سبحانه الذي أوجب علينا هذا، أو شرعه استحبابًا أو شرعه سنةً مؤكدةً، فإيمانًا نُرضي ربنا سبحانه وتعالى، لكن ما يترتب عليه من المصالح نعمةٌ من ربِّي، ما خلق ربِّي الكون عبثًا! نشكر الله، لكن ما نعبد الله إلا بما يريده منَّا، لم يطلب منَّا وقال: صوموا لأجل أن تصحوا، عندهم في الآداب: (صوموا تصحُّوا)، في حديث موضوع، وأعلم ما فيه صحة، لكن أمرني ربي بالصيام حتى لو فيه هلاكي، فأنا أصوم لوجه الله، أنا لست معذورًا.

ثانيًا: الآية الأخرى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)} [الدخان]، فيها منافع دنيوية لا تحصى، لكن هو الله سبحانه وتعالى خلقها ليتدبر الناس ويتأملوا عظمة الله، مثل ما قلت لك: اللطف من خلق النملة والعظمة من خلق العرش، هذه ظاهرات للكل، ولكن الشيء الذي أُريدَ منَّا أن نعبد الله سبحانه وتعالى، وأن نفهم كلامه حسب مراده سبحانه وتعالى، ونمتثل ما أراده ربنا من غير تحسير ولا تقصير: «إذا أمرتكم بأمرٍ فأْتُوا منه ما استطعتم»، الله سبحانه وتعالى ما يكلف نفسًا فوق طاقتها، لا وفيه مضاعفة أجر مما يدلك على أن العبادة مقصودة لذاتها، وقد ضربت مثلًا في مرات عديدة: يأتي شخص عمره تسعين سنة، قضاها من بلوغه الحلم إلى أن بلغ هذه التسعين هو في طاعة ربه، يذهب إلى المسجد مبكرًا، ما يمر عليه عشرة أيام ـ لو أراد أن يختم في ثلاث أيام لختم ولكنه يريد التأمل ـ يختم كل عشرة أيام، كل خمسة عشر يومًا، في طاعة ربه، ويطيل السجود ويطيل الركوع وكذا، [فلمَّا] بلغ التسعين سنة أُقعِدَ، ما يستطيع الصلاة إلا وهو قاعد، أو ما يصلي إلا وهو مستلقٍ، وهذا ـ من كلام ربي ـ كتب له أجره الذي كان يعمله في قوته ونشاطه، كتبه له بعد ما أُقعد. هذا ترتب على هذه العبادة التي للرب سبحانه وتعالى. وبعكس هذا: من هو واحد إذا جاء يوم الجمعة طلع (للبار) وشرب كأس خمر معتقة، وفعل الفاحشة ثم يأتي كأنه الحمار من السكر، يذهب ينام في بيته، وهذه حياته كلها يوم اثنين أو يوم أحد أو يوم جمعة في أي وقت، وفي آخر الليل وقت نزول الرحمة، هذه عادته، هذه الأوزار تكتب عليه. ثم بعد ذلك أقعد بعد تسعين سنة، ما يستطيع أن يشرب الخمر، ولا يستطيع أن ينكح، ولا يستطيع أن يفعل شيئًا، هل الله سبحانه يكتب عليه وزر ما لم يعمل، انظر إلى كرم ربي، الله سبحانه كتب عليه وزر ما كان يعمل في نشاطه فلما أقعد لم يكتب عليه هذا الوزر، بعكس المؤمن كتب له أجره يوم كان صحيحًا، ولما عجز ـ ولم يعجز إلا في طاعة ربه ـ كتب الله له أجر مضاعف، هذا ليس هو الذي ترتب على العبادة، العبادة مقصودة لنفسها، لكن هذه المصالح الدنيوية ترتبت على ما أوجبه الله سبحانه وتعالى. مثل الآية التي ذكرتها لك، غير بعيد: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، وهم مأمورون بطاعة الله وعبادته والنظر في الأنفس والآفاق، وفي سورة البقرة، الآية (29): {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} خلقها من أجلكم، خلقها لكم، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أنتم مخلوقون لعبادة الله، ومع هذا ـ هذه مصالح ترتبت عليها ـ: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} تستمتعون بها ظلًا وهواءً وكل شيء {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وأنتم مخلوقين لعبادة الله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ما أريد منكم جزاءً ولا شكورًا، تعبدون الله وهو الغني الحميد، وترتب على هذا: طاعة الله، أن الله خلق لهم ما في الأرض جميعًا، وهذه فيها كلام طيب، وأنا كتبت في هذا مقالًا، وهو منشور.

الشيخ عبد الحق: يعني قصدكم شيخنا أن الآية تقول: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وسخر لكم كذلك في الآية الأخرى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ}، فهي مخلوقة لكم، وأنتم مخلوقون لوظيفة أخرى.

الشيخ ابن عقيل: مخلوقون لعبادة الله. وعبادة الله سبحانه تعالى من فضل الله وكرمه رتب عليها شيئًا لمصلحتكم و: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} خلقها لكم جميعًا، ولكن خلقكم لعبادته، وعبادته ترتب عليها هذه النعمة.

الشيخ عبد الحق: جزاك الله خيرًا.

الشيخ ابن عقيل: الحق أبلجُ، والباطل لجلج.

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©