عمارة الأرض



عمارة الأرض:
أولًا: العمارة لغةً:
قال ابن فارس (ت: 395) في «مقاييس اللغة» مادة: (عمر): «العين والميم والراء: أصلان صحيحان، أحدهما يدلُّ على بقاءٍ وامتدادِ زمانٍ، والآخرُ على شيء يعلو، من صوت أو غيره. فالأول: العُمْرُ وهو الحياة، وهو العَمْر أيضًا... ويقال: عَمِرَ الناس: طالت أعمارهم. وعمَّرهم الله جلَّ ثناؤه تعميرًا. ومن الباب: عِمارةُ الأرض، يقال عَمَرَ الناسُ الأرضَ عمارةً، وهم يعْمُرُونها، وهي عامرةٌ، معمورةٌ. وقولهم: «عامرة» محمول على عمَرَتِ الأرضُ، والمعمورةُ من عُمِرَت. والاسم والمصدر: العُمران. واستَعْمر الله تعالى الناسَ في الأرض ليعمُرُوها. والبابُ كلُّه يؤُول إلى هذا. وأما [البابُ] الآخرُ: فالعومرة: الصياح والجلَبة. ويقال: اعتمر الرجلُ؛ إذا أهلَّ بعمرته، وذلك رفعُه صوتَه بالتلبية للعمرة».
ثانيًا: عمارة الأرض اصطلاحًا:
جرى استعمال هذا المصطلح على ألسنة العلماء قديمًا وحديثًا، وانتشر انتشارًا واسعًا في الخطاب الإسلامي المعاصر، لهذا لا بدَّ من تحرير معناه حسب مراد مستعمله، فمن المعروف أن المصطلح الواحد قد يُستعمل بدلالات مختلفة، وهكذا الحال مع هذا المصطلح، حيث تبيَّن لنا من تتبع استعمالات العلماء والمفكرين والكُتَّاب المعاصرين المعاني التالية:
أولًا: عمارة الأرض بمعنى الزراعة والصناعة والبناء، وسائر ما يحتاج إليه الناس في تسهيل حياتهم، وإصلاح معايشهم. وقد استعمل الجصَّاص (370) في «أحكام القرآن» [سورة هود: 62] عمارة الأرض بهذا المعنى، وكذلك صنع كثيرٌ من العلماء؛ وهو استعمال صحيح، لا إشكال فيه. قال عبد العزيز بن عبد الله بن باز (ت: 1420) في حكمة تحريم الربا: «لأن أصحاب الأموال يعتمدون في تنميتها على الربا ويعطلون الكثير من المشاريع المفيدة النافعة، من أنواع الصناعات، وعمارة الأرض، وغير ذلك من أنواع الأعمال المفيدة».
ثانيًا: عمارة الأرض بما يرادف المصطلح الفقهي: «إحياء الموات»، أي زراعتها واستصلاحها والسكنى فيها، وهذا المعنى قريبٌ من الاستعمال الأول، ومنه قول الرازي (ت: 606) في «تفسيره» [البقرة: 255]: «عمارة الأرض الخربة تسمى: إحياء الموات». وقال ابن عاشور في «تفسيره» [الروم: 9]: «ومعنى عمارة الأرض: جعلها عامرة غير خلاء وذلك بالبناء والغرس والزرع».
ثالثًا: عمارةُ الأرض بما زاد عن القَدْرِ الحاجيِّ المذكور في (أولًا) و(ثانيًا)، وذلك بالمبالغة في البناء، والتوسع في الصناعات، والتعلق بالكماليات، والإسراف في المتع والشهوات، بحيث يكون التسابق في المكاسب المادية، والنهضة العمرانية، والتطور في مجال المخترعات الحديثة، ووسائل الخدمات، وأدوات الراحة والرفاهية. وهذا المفهوم في عمارة الأرض هو الغالب على الحضارة الغربية، بل هو من أهم خصائصها وصفاتها، والحاكم لاهتماماتها وأولياتها. وقد قال رسول الله صلى الله عليهوسلمه: «ما الفقرَ أخشَى عليكم، ولكنِّي أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم»، أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ.
رابعًا: عمارة الأرض بمعنى وجود المخلوق الحيِّ فيها؛ فالله تعالى عمَّر السماوات العُلى بوجود الملائكة، وعمَّر الأرض بوجود الإنس والجنِّ، وعدم الحياة منافٍ للعمارة. يستفاد هذا من استعمال ابن عُجيبة (ت: 1224) في «تفسيره» [سورة البقرة: 30]. ومنه قول محمود النَّيسابوري المتوفى بعد سنة (550) في «إيجاز البيان عن معاني القرآن» في قوله تعالى: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]: «جعلكم عمَّارها، فيدل على أن الله يريد عمارة الأرض لا التبتُّل». يعني: لأن في التبتل قطع النَّسْل، مما يؤدي إلى فناء النوع الإنساني.
خامسًا: عمارة الأرض بمعنى عبادة الله تعالى، وطاعة أمره، واتباع شرعه، وإقامة دينه. وقد قصد هذا المعنى من فسَّر جعل الله تعالى آدمَ خليفةً في الأرض بأنها خلافة عن الله تعالى. قال البيضاويُّ (ت: 685) في تفسير آية البقرة (30): «والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه، والهاء فيه للمبالغة، والمراد به آدم عليه الصلاة والسلام لأنه كان خليفة الله في أرضه، وكذلك كل نبي استخلفهم الله في عمارة الأرض، وسياسة الناس، وتكميل نفوسهم، وتنفيذ أمره فيهم». وقال أبو حيَّان الأندلسي (ت: 745) في تفسير هذه الآية أيضًا: «وفي المستخْلَفِ فيه آدمُ قولان: أحدهما: الحكم بالحق والعدل. الثاني: عمارة الأرض، يزرع ويحصد ويبني ويجري الأنهار».
وقريب من هذا استعمال بعض العلماء المعاصرين، ذلك أن هذا المصطلح طرق آذانهم كثيرًا، فحملوه على ما هو متقرر عندهم من مقصود الخلق، ولم ينتبهوا لمقصود مشيعيه في هذا العصر؛ من ذلك قول عبد الله بن محمد الغنيمان (معاصر) في «شرح فتح المجيد» (دروس صوتية): «عمارة الأرض هي بعبادة الله جل وعلا، واتباع وحيه، واجتناب مناهيه». أما في استعمال الفلاسفة والمفكرين المعاصرين فإن هذا المعنى غير مراد إطلاقًا، أو غير مرادٍ ابتداءً وأصالةً.
سادسًا: عمارة الأرض بما ينافي الظلم والفساد والخراب والهلاك؛ كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [القرة: 11]، وقال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56، و85]، وقال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 204 - 205].
فهذه الأحوال التي نهى الله عنها، وذم أصحابها؛ يقابلها عمارةُ الأرض بالتوحيد والطاعة والبر والإحسان والخير والصلاح والإصلاح. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنْ قامت الساعةُ، وفي يد أحدكم فَسِيلةٌ؛ فإن استطاع أن لا تقوم حتَّى يغرسها فلْيَغْرِسْها» أخرجه البخاريُّ في «الأدب المفرد» (479).
سابعًا: أما عمارة المساجد المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]، فالمقصود بها: العمارة الحسيَّة بالتأسيس والبناء، والعمارة المعنوية بالحضور فيها للعبادة. قال ابن الجوزي (ت: 597) في «زاد المسير»: «وفي المراد بالعمارة قولان: أحدهما: دخوله والجلوس فيه. والثاني: البناء له وإصلاحه».
علاقة هذا المصطلح بمباحث تفسير الإسلام:
ليس في استعمال هذا المصطلح محذور في مبناه أو معناه، لكن ينبغي الحذر من استعمال كثير من المفكرين والكتاب المعاصرين له بأحد هذين المقصدين:
الأول: استعماله بالمعنى الذي ذكرناه في (ثالثًا)، وهو المفهوم الغربيُّ الماديُّ، ويقصدون بذلك أن التطور الماديِّ، والنهضة العمرانية، والطفرة الصناعية؛ هي المقصد والغاية من النشاط البشري، وهي المعيار لتطور الإنسان والمجتمع والدولة، وتقدمها في مراتب التمدن والتحضر.
ومن نتائج هذا: ذمُّ أحوال المسلمين، والتشنيع عليهم، والقدح فيهم، والمناداة عليهم بالويل والثبور، وربما بلغ الحال ببعضهم إلى تفضيل الكفار والملاحدة عليهم واستحسان أحوالهم وأنظمة حياتهم. وهذا مخالف لصريح ما في كتاب الله تعالى من ذمِّ الكفار والمشركين، والتشنيع عليهم بما هم عليه من الإمكانيات المادية كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 9]، وفي مقابل هذا: مدح الله تعالى المؤمنين َـ وإن كانوا فقراء ومساكين ومستضعفين، زاهدين في الدنيا وزخرفها ـ، ففي قصة نوح عليه السلام مع قومه، وقد سخروا من أتباعه المستضعفين فقالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}، فأخبر الله تعالى أنه أجابهم بقوله: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 29 - 31].
وقال الله عزَّ وجلَّ مخاطبًا نبيَّه الكريم صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
تنبيه: الكُتَّاب والمفكرون الإسلاميون والدعاة على درجات متفاوتة في التأثر بهذه الفكرة والنَّزعة، وكثيرٌ منهم لا يحقق هذه الطريقة الغربية ولا يلتزم بها، بل قد ينتقدها، لكنه قد أخذ شيئًا من مادتها واستحسنها، فتراه يميل إلى شيء منها في بعض أقواله وتفسيراته لمسائل الديانة، فليس المقصود جعل من تأثر بالتفسيرات المادية والدنيوية في مسائل قليلة أو كثيرة بمرتبة من جعل الدنيا همَّه وغاية علمه ومطلبه، وقد جعل الله تعالى لكل شيء قدرًا.
الثاني: جعل عمارة الأرض ـ سواء بالمفهوم الحاجي، أو بالمفهوم المادي الغربي ـ وهذا أكثر وأشهر ـ هي الغاية من الخلق والنبوة والرسالة والشريعة والعبادة، والزعم بأن من ضيَّع أو قصَّر في عمارة الأرض فقد ضيَّع دين الله تعالى أو قصَّر فيه. هذا هو الاستعمال المذموم مطلقًا، وهو (التفسير السياسي للإسلام)، ويلتقي ـ في حقيقته ـ بعقيدة غلاة الفلاسفة الباطنية كالفارابي وابن سينا، وفيه تحريف جذريٌّ لحقيقة دين الإسلام ومقاصده الكلية، وتضليل للمسلم عن إرادته وقصده من إيمانه وعبادته، وتزيين للمنافسة على الحياة الدنيا، والمغالبة عليها، والهلاك في وديانها، وإخراج هذا الزيغ والضلال في قالب العمل للإسلام، والخلافة في الأرض، وإقامة دين الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}. والله الهادي للحق والصواب.

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©