بسمِ الله الرحمنِ الرحيمِ
من المعروف أن المصطلح الواحد قد تكون له دلالات مختلفة عند أصحاب الفنون المختلفة، حسب عرفهم وتواضعهم، فمصطلح «الصحيح» ـ مثلًا ـ له دلالة خاصة في علم الحديث، تختلف عن دلالته في علم الفقه. ومن هنا: فلا عجب أن يستعمل مصطلح «التفسير السياسي للدين أو الإسلام» بدلالات مختلفة، حسب اختلاف مستعمليه في تخصصاتهم وفي مقاصدهم.
ويمكننا هنا التعريف بثلاثة استعمالات لمصطلح (التفسير السياسي):
الاستعمال الأول:
التفسير السياسي؛ تفسيرٌ يجعل العقائد والعبادات وجميع شرائع الإسلام وسائل وأسبابًا لإقامة النظام السياسي الذي يحقِّقُ العدل المادي والسعادة الدنيوية بين البشر، فهو يُفَسِّر الدِّين بتفسيرٍ جامعٍ، وصورةٍ كليَّةٍ؛ تكون فيه الناحيةُ السياسيةُ وحدةً أساسيَّةً للدِّين، لا يُعْرَفُ هدفُ الرسالة النبوية بدون السياسة، ولا يُفهَمُ المعنى الكامل للعقائد، ولا تَظهر أهميةُ الصلاة وسائر العبادات، ولا تُقطع مراحلُ التَّقوى والإحسان، ولا يُعقَلُ الهدفُ مِنَ «الإسراء والمعراج» إلَّا بالسِّياسة، وجملةُ القول؛ فإنَّه بدون السِّياسة يبقى الدِّينُ كلُّه فارغًا، وغيرَ قابلٍ للفهم، كأَنَّه قد حُذِفَ منه ثلاثةُ أَرباعه. انظر: «مقدمة في تفسير الإسلام» 73.
فهو بهذا المفهوم يجعل الجانبَ السياسي للإسلام هو الأصل الكلي المقصود، وهو الغاية المنشودة، وما عداه فمقصود تبعًا لا أصالة، أو مجرد وسائل خادمة للمقصد السياسي.
وهذا المعنى للمصطلح هو المقصود في جميع أبحاث ومنشورات «مركز دراسات تفسير الإسلام» تعريفًا ونقدًا وتحذيرًا، ويمكن التعرف على تفاصيله وشروحه بدراسة تلك الأبحاث والمنشورات.
الاستعمال الثاني:
التفسير السياسي؛ تفسيرٌ منهجيٌّ فكريٌّ وبحثيٌّ ينطلق من دعوى أن كل ما يتعلق بالدين من عقائد وعلوم وممارسات وإنجازات وآثار وتطورات تاريخية يخضع للأسباب السياسية إما بصورة كلية أو بصورة جزئية. وفق هذا «التفسير» فإن العامل الأساس في صيرورة «الدين» وسيرورته هو: السلطة السياسية، والخلافات السياسية، والصراعات السياسية، وليس العلم والتديُّن. فهو يخفي المقاصد السياسية خلف الألفاظ الشرعية، ويتخذ ذلك وسيلة للوصول للمنافع السياسية.
وقد تبنى كثير من المستشرقين والعلمانيين والعصرانيين هذه النظرية، وراحوا يتكلفون في تأييدها بالشواهد الجزئية والوقائع التاريخية، ويبالغون في ذلك ويدلسون ويخرجون الحوادث عن سياقاتها الطبيعية، ثم يدَّعون أن كتابة المصحف، وتدوين الحديث والفقه الإسلامي، وأحكام السياسة الشرعية، وظهور الفرق الاعتقادية أو المدارس الفقهية وغير ذلك؛ أسبابُها «سياسية» بالدرجة الأولى، إما لإرضاء بعض الحكام، وترسيخ ملكهم، أو لمعارضتهم ومناكفتهم، أو بسبب التعصب والتحزب في الصراعات السياسية.
ولقد تناول الدكتور سلطان بن عبد الرحمن العميري في بحثه الموسوم: «التفسير السياسي للقضايا العقدية في الفكر العربي المعاصر»؛ هذا الاتجاه الفكري والبحثي بالتعريف والتوثيق والنقد، فموضوع كتابه لا علاقة له بالتفسير السياسي للإسلام عند الحركات الإسلامية، حسب الاستعمال الأول المذكور أعلاه.
الاستعمال الثالث:
التفسير السياسي للقرآن؛ هذا الاستعمال الثالث مرادف لمعنى «التفسير» في الدراسات القرآنية، حيث يتعلق «التفسير» بالتخصصات العلمية الدقيقة، فيضاف إلى تخصص معين، مثل: «التفسير اللغوي»، و«التفسير الموضوعي»، و«التفسير الفقهي = أحكام القرآن»، و«التفسير البلاغي». فالمقصود بـ: «التفسير السياسي للقرآن» ما يقصد بـ: «الفقه السياسي»، أي: البحث والدراسة للآيات والأحاديث والأحكام المتعلقة بالسياسة، لتقرير النظريات السياسية الكلية، أو الأحكام السياسية التفصيلية في الإسلام.
وهذا الاستعمال لا إِشكال فيه، والفقهاء بحثوا هذه المسائل في «أحكام السياسة الشرعية»، إما في كتب مفردة، أو في ثنايا كتبهم في تفسير القرآن وشرح الحديث أو في مدوناتهم الفقهية.
لكن إفراد مصطلح «التفسير السياسي للقرآن» والتركيز عليه سيؤدي إلى الغلو في الجانب السياسي من أحكام الديانة، وهو ما ظهر جليًّا في كتاب «التفسير السياسي للقرآن دراسة في المبادئ المعرفية»، تأليف الكُتَّاب الإيرانيين: أبي الحسن حسني، وأمين عظيمي، وحسين أحمدي سفيدان، ومنصور مير أحمدي، ترجمه من الفارسية: وائل علي، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى: 2018.
لهذا كان من المهم التمييز بين الاستعمالات المختلفة لمصطلح «التفسير السياسي»، وتمييز المعنى الذي يقصده المركز ويركز عليه.