بيان حول (توضيحات الددو)


 

بيان حول (توضيحات الددو)

لقد نُشر قبل قليل مقطعٌ صوتي يجيب فيه الشيخ محمد الحسن الددو على المقال الذي نشرناه بعنوان: (دعوى (فشل النبيِّ عليه السلام في رسالته) من الخميني إلى الدَّدُو) 18/9/2025 في الردِّ على ما في كلامه من الطعن في كمال الرسالة المحمدية.

ومن الواضح من كلامه أنه علم ـ أيضًا ـ بأنَّ العشرات من المشايخ والدكاترة وطلاب العلم من مختلف البلاد، ومن مختلف التوجهات والانتماءات الاعتقادية والفكرية؛ اتَّفقوا ـ كلُّهم ـ على فهم كلامه على الوجه الذي بيَّناه وشرحناه، وطالبوه بالتوضيح والتراجع والتصحيح.

لكن الدَّدو قال في (توضيحاته): «ما قلته ليس فيه زلَّةٌ ولا خطأ واحد»!

 وقال الدَّدو: «فالأمر واضح، ولا لبس فيه ولا إشكال، وليس فيه زلَّةٌ واحدةٌ، ولا خطأٌ واحدٌ، ولا أدري كيف فهم منه العقلاء هذا الذي فهموه»!

وقد ملأ (توضيحاته) باللفِّ والدوران على عادته، من ذلك أنه زعم بأنَّ الرادِّين عليه ينكرون أن تكون وفاة الرسول عليه السلام مصيبة، حتى قال: «لا أدري كيف ينكر بعض الناس ويتجاسرون على إنكار مصيبة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم». ثم ذكر: أنَّ من أنكر أن الموت مصيبة فقد كفر!

والدَّدو يعلم جيدًا أنَّ كلامه الأول ليس في نفس مصيبة وفاته عليه السلام، بل فيما رتَّب الددو عليها من نقص الرسالة، فقد تركنا رسول الله صلى الله عيله وسلم من غير دستور سياسي ولا نظام سياسيٍّ، وكان من آثار هذا النقص: «ارتداد جمهور المسلمين عن الإسلام»!

وهذا ما فهمه جميع الرادِّين عليه، ومنهم عدد كبيرٌ من جماعته ومحبِّيه، وقد خاطبوه بتلطُّفٍ وطالبوه بالتراجع، فخرج في (توضيحاته) يُسفِّه فهمَهم، ويستخفُّ بعقولهم، ويتلاعب عليهم في الألفاظ.

وكل عاقلٍ يفهم أنَّ (محل النزاع) و(موضع الخلاف) مع الدَّدو ليس في مصيبة وفاته عليه السلام ولا في إنكار وقوع الردة أو الاختلاف، وإنما فيما رتَّبه الددو على ذلك من وقوع النقص في الرسالة المحمدية. لهذا عمدنا في المقال الذي نشرناه إلى الكشف عن حقيقة كلام الدَّدو ووجه الانحراف فيه.

ومن المناسب أن ندرج هنا تعليقًا نشرناه قبل ساعات وبيَّنا فيه أصل الانحراف في كلام الددو، وأنه من أهم قواصم الفكر الحركيِّ.

أمَّا طعن الددو في كمال الرسالة المحمدية، فقد قلنا في ذلك التعليق: «فهذا أمر واضح جليٌّ، وسيقوم الددو بالاعتذار عن طعنه هذا بأن آلاف المشايخ وطلبة العلم حول العالم قد أساؤوا فهمه، وقصرت عقولهم عن إدراك مقاصده، وأنه يتبرأ مما فهموه ويستغفر الله ويتوب إليه».

وقد فعل الددو ما توقَّعناه، فاتَّهم الجميعَ بسوء الفهم، أما هو فليس في كلامه ـ حسب ما قال ـ: «زلَّةٌ ولا خطأٌ واحدٌ»!

إنَّ (محل النزاع) و(موضع الخلاف) في النتيجة المترتبة على كون النبيِّ صلى الله عليه وسلم تركنا من غير: (دستور سياسي ونظام سياسي)، أي: دستور قانونيٍّ سياسيٍّ لنظام الحكم، واختيار الحاكم، وتداول السلطة، ونظام مجلس الشورى وصلاحياته، ونظام تداول السلطة ومحاسبة الحاكم، كما صنع الآباء المؤسسون للولايات المتحدة.

هذا هو مراد الددو.

وكلام الددو من الناحية التاريخية الواقعية حقٌّ لا شك فيه؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصنع لأمته كما صنع الآباء المؤسسون للولايات المتحدة عندما كتبوا الدستور ووضعوا نظام الحكم ومجلس النواب ومجلس الشيوخ ثم نظام الانتخابات وقانون تحديد سلطات الحاكم، بنصوص قانونية محددة.

الخلاف ليس في هذا، وإن رغم أنف «حاكم المطيري» الذي كتب مقالًا طويلًا في الرد على الددو وعجز عن نقض دعواه.

الخلاف في النتيجة المترتِّبة على ما تركنا عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. والنتيجة تختلف حسب اعتقاد المرء ومنهجه وفكره:

1- فإذا كان المسلم يعتقد أن هذه الأمور التنظيمية والسياسية ـ كلها ـ من أمر الدنيا، وهي من الوسائل التي تختلف باختلاف الزمان والمكان والمصالح والمفاسد والقدرة والاستطاعة، وليست من مقاصد دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصول رسالته وديانته؛ فلا إشكال ـ إذن ـ في أنَّ النبي ترك بيانها، بل تركُه لها من كمال رسالته، ورحمة الله بسماحة شريعته وسعتها وصلاحها لكل زمان ومكان.

ويكفي أن يقوم المسلمون بما يجب عليهم من الانقياد لشريعته وتحكيمها في جميع شؤونهم مهما اختلفت تنظيماتهم السياسية والاجتماعية.

 2- وإذا كان المسلم يعتقد أن هذه الأمور التنظيمية والسياسية ـ كلها ـ هي مقصود الرسالة أصالة، وأن النبيَّ بُعث لإحداث الانقلاب السياسي، وإقامة الحكومة الإلهية، وتحقيق العدل الاجتماعي ـ كما يقوله المودوديُّ وحسن البنا وسيد قطب ومحمد قطب والخميني وعلي شريعتي وغيرهم، وليس على وجه الأرضِ حركيٌّ إلا وهو يقول بهذا، بدرجةٍ ما، حتَّى إن كثيرًا منهم متأثر بالفكرة من غير إدراك منه لمناقضتها لأصل الدين ـ؛ فإذا كان المسلم قد تلوَّثت عقيدته وفكره بهذا التفسير السياسي المنحرف؛ فلا بد أن يصل إلى نتيجة مفادها: أن في إسلامنا وديننا وحضارتنا نقصًا وعيبًا، كما بيَّناه في المقال.

إذن؛ ليس المهم أن يتراجع الددو عما قاله، فهذا يتعلق بشخصه، وهو بينه وبين ربه، وقد تبيَّن لنا الآن أنه مصرٌّ على كلامه الأول، ويؤكد بأنه لا زلَّة فيه ولا خطأ، حتى إنه لم يعتذر لنفسه بسوء التعبير عن فكرته أو طروءِ سهوٍ وغفلةٍ عليه أثناء ارتجاله الكلام، بل أصرَّ عليه إصرارًا، وأكد على صحته تأكيدًا قاطعًا، فقطع الطريق على كل من يريد الاعتذار له من أتباعه ومن المفتونين به.

أقول: ليس المهم أن يتراجع الددو، لكنَّ المهمَّ، وأصل الموضوع وأساسه ـ وهو سبب مقال المركز وهدفه ـ: أن يفهم الددو أولًا، ثم يقرَّ ويصرح ويُبيِّن ثانيًا؛ بأنَّ ما ذكره من (الدستور السياسي والنظام السياسي) أمور جزئية ثانوية تتعلق بتنظيم شؤون الدنيا، وأنها ليست داخلة في صلب الرسالة المحمدية، ولا هي من أصولها ومقاصدها، بل الإسلام: رسالة دينية خالصة، أصلها الأعظم: إفراد الله تعالى بالعبادة والبراءة من الشرك وأهله. وأن جميع ما فيها من تشريعات إنما هي خادمة لأصل التوحيد والعبودية. وأن الله تعالى حفظ هذا الدين فجعله غير خاضع لنظام سياسيٍّ، بل المسلمون جميعًا حكامًا ومحكومين: مخاطبون بالانقياد لأحكامه، وتطبيق شريعته وإقامة حدوده، تعبدًا لله تعالى، ومن ضيع من الحكَّام الحكم بما أنزل الله فقد عصى ربه، وأساء لنفسه، وظلم أمته، ويبقى دينُ الله مصونًا محفوظًا، مستقلًّا عن أهواء الحكام وتقلبات الأحوال وتغير العصور، لا سلطة عليه لا من قبل دستور ولا مجلس حكم.

هذا هو أصل الموضوع ولبه، ومهما أكثر الحركيون من الكلام في هذه المسألة، فلن يتراجع أحدٌ منهم عن هذا الضلال المبين في تفسير أصل الدين، لأنه الأصل الكلي لمنهجهم ودعوتهم وحركتهم، وبانهياره سينهار فكرهم انهيارًا كليًّا، لهذا تجدهم اليوم في (نكبة) و(أزمة)، ولسان حالهم يقول لرفيقهم الددو ـ كما قال الصوفية للحلاج ـ: (قد فضحتنا)!

ولن ينفعهم محاولاتهم لملمةَ الموضوع وتغطيته بعيدًا عن مقال المركز الذي وضع المبضع على موطن الدَّاء.

إنَّ هذا المقام هو مقام النُّصرة لأصل التوحيد والنبوة والرسالة والديانة والشريعة ونفي التحريف عنه، لهذا أدعو إخواني من أهل العلم وطلَّابه أن يُولُوا هذا الموضوع اهتمامهم، ويساهموا فيه بالكتابة والخطابة والشرح والتدريس، ويكونوا لنا أعوانًا وأنصارًا في مواجهة خطر «التفسير السياسي والنفعي للإسلام»، وبالله تعالى التوفيق، وهو المستعان وعليه التكلان.

كتبه:

عبد الحق التركماني

مركز دراسات تفسير الإسلام

مساء الثلاثاء 1 ربيع الثاني 1447

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©