التقوى وموجباتها


قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر:18].

هذه الآية الكريمة كآيات كثيرات غيرها، يأمر الله بها عباده المؤمنين أن يتقوه، وقد جاء هذا المعنى في عدة مواضع من كتاب الله عز وجل، وذلك يدل على أن المؤمن يُؤمَر بالتقوى كما يُؤمَر بها غيره.

وقد جاء في آيات أخرى توجيه الأمر إلى جنس الناس: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [النساء:1]، ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج:1]، ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:21]. فالعبادة والتقوى مأمور بها جميع الثقلين: الجن والأنس، فكلاهما مأمور بتقوى الله وعبادته، ولهذا خُلقوا، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56].

فوجب على كل ذي عقل من الجن والإنس أن يُعنى بهذا الأمر الذي خُلق من أجله، وأن يلتزم بما أُمر، وبما فُرض عليه من تقوى الله سبحانه وعبادته وحده دون كلِّ ما سواه.

وتقوى الله: هي توحيده والإخلاص له ومراقبته بتعظيم أوامر وترك نواهيه، والوقوفِ عند حدوده في جميع الزمان والمكان وهي أيضًا العبادة التي أُمِرنا بها في قوله: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة:21]، فإن عبادة الله: وهي توحيدُه، والإخلاصُ له، والخضوع له، والذلُّ لعظمته في جميع الشؤون وفي جميع الأحوال، ولا يكون هذا إلا بفعل الأوامر وترك النواهي، أما الذي لا يمتثل أمرَ الله ونهيه، فإنه لم يعبده ولم يتقه.

فأما أمرُ الناس بالتقوى والعبادة، فهو ظاهر؛ لأنهم خلقوا لذلك، وفيه سعادتهم ونجاتهم، فوجب عليهم أن يتقوا الله وأن يعبدوه ويعظِّموه.

وسُمِّي الدين لأنه يقي من التزمه عذابَ الله وغضبَه، فلهذا قيل الإسلام والإيمان والهدى: تقوى؛ لأن من التزم بالإسلام واستقام عليه وقاه الله عذاب الدنيا والآخرة، وأحسن العاقبة.

وسُمي إسلامًا لما يتضمنه من الذل لله والانقياد له، بفعل المأمور وترك المحذور، يقال: أسلم فلانٌ لفلان إذا انقاد له، فالإسلام: هو الانقياد، فسمي الإسلامُ دينُ الله إسلامًا؛ لأن أهله يلزمهم أن يستسلموا لله، وأن ينقادوا لعظمته، وأن يعظِّموه ويُجلُّوه ويلتزموا أمره ونهيه.

وسُمي إيمانًا لأن التزام العبد بما أمر اللهُ به رسولهُ، وتصديقَه لله ورسولِه هو الإيمان، فالأيمان مصدر آمن يؤمن أيمانًا، مَن صَدَّقَ، فصاحب الدين والمنتسب للإسلام قد صدَّق الله ورسوله، فالتزم بدين الله، وعظَّم أمر الله ونهيه، وصدَّق أخبارَه، فهو المؤمن، ويسمى دينُه إيمانًا. ويُسمى ديننا أيضًا هدى؛ لأن صاحبه مهدي، ولأنه يهدي من التزمه إلى طريق الخير والرشاد.

وسُمي إحسانًا لما فيه من الإحسان إلى نفسك، وإلى عباد الله، فأنت بعبادة الله وحده والإخلاص له وعبادته كأنك تراه، قد أحسنت إلى نفسك، وقد أحسنت إلى عباد الله بفعل المأمور وترك المحذور، وبإلزامهم بالحق، وبأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، إلى غير ذلك.

فلهذا يقول الله سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ﴾ [الحشر:18]، ووجْهُ أمرِهم بالتقوى وهم متقون: أن الإيمان ذو شُعَبٍ قولية وفعلية، ظاهرةٍ وباطنةٍ، فهم مأمورون بأن يلتزمون ويعظِّموها ويستمروا عليها. هذا معنى قوله: ﴿اتَّقُوا اللهَ﴾، أي: الزموا تقواه وسيروا عليها، وهكذا قوله جل وعلا: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ﴾ [الأحزاب:1]، فالنبي رأس المتقين-عليه الصلاة والسلام-فمعنى أمرِهِ بالتقوى: هو الأمرُ بالتزامها والسيرِ والصبر والثبات عليها، وهكذا المؤمنون، يُؤمَرون بالثبات على التقوى، ولزومها والسير عليها، والنظر في جميع الشُّعب والفروع التي تتفرع عنها حتى يلتزموها ويأخذوا بها.

فأنت مأمور بلزوم التقوى، ثم مأمور أيضًا بتفقد حالك ومحاسبة نفسك حتى لا تدع لا تفرط في شيء منها، وهكذا يأمرك بالأيمان لتلتزمه وتستقيم عليه، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ﴾ [النساء:136]، فالمعنى: التزموا الإيمان واستقيموا واثبتوا عليه وسيروا عليه.

﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ أي: انظروا ماذا قدمتم للآخرة، فلتنظر كل نفس ماذا قدمت لآخرتها، فقد يترتب على الغفلة تضييعُ بعض الأوامر، أو ركوبُ بعض النواهي، فإذا حاسب الإنسان نفسه ونظر وتأمل فقد يعرفُ ما فرَّط فيه، وقد يعلم ما ركبه من محارم، فيبادر بالتوبة والإصلاح.

فالنظر فيه فوائد: ففيه حسابٌ للنفس، وفيه تتبع لأعمالها وأقوالها، وفيه نظر فيما ضيعت من أمرِ الله أو تساهلت فيه أو ارتكبته من محارم الله، فواجب على كل أن ينظر وأن يتأمل ويحاسب نفسه، وألا يجازف في الأمور، وألا يغفل، فقد يكون على سيئة وهو غافل، وقد يكون مضيعًا لواجب وهو غافل، فوجب عليك أن تنظر فيما أنت عليه، وأن تحاسب نفسك، وأن تنظر ماذا قدمت لآخرتك.

وسُميت الآخرة غدًا، تقريبًا لها؛ لأنها هي التي تلي هذا اليوم، فالدنيا بمثابة يوم، وبعد هذا اليوم غدٌ، وهو يوم القيامة، فالدنيا كلها كيوم واحد، من أولها إلى آخرها، فهي أمرٌ زائل منتهٍ له حد، وما بعده هو الآخرة، فجدير بالنفس الزكية، وبمن تعزُّ عليه نفسُه، وبمن يهمه خلاصها ونجاتها أن يعد العدة، وأن ينظر للآخرة.

﴿وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فإذا اتقى ربَّه وحاسب نفسه عرف ما له وما عليه، كالذي يحاسب نفسه من جهة البضاعة، أو يحاسب شركاءَه، فيعرف النتيجة، وهذا أعظم وأوهمُّ، فمحاسبة النفس فيما يتعلق بأمر الله وأمر الآخرة، من أهم الأمور وأعظمِها؛ لأنك مخلوق لتعبد ربَّك وتتقيه، ومخلوق لتحاسب هذه النفس عن أخطائها وتجاهدها بما يجب عليها.

ونتيجةُ المحاسبة أن المؤمن يعرف بعدها ما له وما عليه، فإن ظهر له أنه مستقيم وأن سَيرَهُ على الهدى ثابت، حَمِدَ اللهَ، وسأله الثبات، وعرف قدر هذه النعمة، وشكر اللهَ عليها، واستمر في الخوف والوَجَل حتى لا تزول أو يزول بعضها. وإن ظهر له بعد الحساب تفريطٌ وأخطاء كثيرة وأغلاط وعيوب، -وهذا هو الأغلب والأكثر-فعند ذلك يبادرُ بالتوبة وإصلاح ما وقع منه من أخطاء، وما زلَّت فيه قدمه، وما أضاع من أمر الله، وليجاهد نفسه لله، وليتبْ إلى الله مما فرَّط فيه، ويجدد له حالًا مع الله في ترك نواهيه والتزام أوامره والوقوف عند حدوده.      

الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (ت: 1420) رحمه الله، الفوائد العلمية من الدروس البازية 4/402-408، ط. الرسالة العالمية.

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©