القرضاوي والإنسان المذموم في القرآن



القرضاوي والإنسان المذموم في القرآن

 

نص المنشور:

 

نشر الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي على صفحته الرسمية في منصة (فيسبوك)، بتاريخ 21/2/2019، ما نصُّه:

«الإنسان المذموم في القرآن هو الإنسان السلبي العاجز، الذي يأخذ ولا يعطي، ويستهلك ولا ينتج، وهو كلٌّ على مولاه، وعالة على غيره، يحمَل ولا يحمل، معطل الطاقات، أينما ذهب لا يحقق خيرًا، ولا يفيد أحدًا!»

 

التعليق:

1- العجب لا يكاد ينقضي من استمرار هذا الرجل على فكره المنحرف مع ما سبق من بدور بارقة أملٍ في تحسن فكره، وذلك عندما ظهر كتابه «القضايا المبدئية والمصيرية الكبرى للإنسان: ماذا أنا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ ولِمَ؟)، نشر الدار الشامية، تركيا، الطبعة الأولى: 1438/2017، في مجلد لطيف» وقد علقنا عليه في مقال فانظره تكرمًا على الرابط بعنوان:

(القرضاويُّ والقضية المصيرية الكبرى: توبةٌ حادثةٌ أم انفصامٌ مزمنٌ؟!)

ولكن الظاهر أنه انفصام مزمن ومن شبَّ وشاب على شيءٍ فيصعب أن ينفصل منه بسهولة، فها هو الآن يعود ليضيف مفهومًا جديدًا ـ بل تحريفًا جديدًا ـ عن «الإنسان المذموم في القرآن».

2- لا تجد قارئًا لكتاب الله بعيدًا عن الفلسفات والأفهام المحدثة يفهم أن الإنسان المذموم هو الإنسان الذي اكتشفه القرضاوي، كيف والله تعالى يقول: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ ‌تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)﴾ [التوبة] فتأمل: هؤلاء الكفار كانوا أصحاب نفقات وصِلات وليسوا سلبيين بالمفهوم الحركي، ومع ذلك لم تقبل منهم لفقد شرط الايمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى أيضًا: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ ‌هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: 23]؛ وهؤلاء أيضًا لا شكَّ أن أعمالهم المذكورة في الآية كانت أعمالًا نافعة مرجوة، وليست سلبية بالمفهوم الحركي، ومع ذلك فقد تحولت إلى هباءٍ منثورٍ لنفس السبب السبق، بل هذا عمُّ النبي صلى الله عيله وسلم أبو طالبٍ ـ ومكانته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفة، وقد أصابه الحزن بعد موته ـ أبعد الناس عن السلبية ـ بمقاييس الفكر الحركي ـ، فقد عمل واجتهد وحمى رسول الله صلى الله عيله وسلم ودافع عنه دفاعًا مجيدًا؛ ومع ذلك أين كان مصيره؟ أخرج البخاري ومسلم عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيتَ عن عمِّك، فإنه كان ‌يحوطك ويغضب لك؟ قال: «هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار». والأمثلة على ذلك كثيرة.

3- فإن قال قائل: وهل القرضاوي أنكر أن الايمان شرط لا بد منه ليقبل العمل أو أن الله يثيب الكافر ويدخله الجنة رغم كفره وعناده؟

قيل: نعم هو لا يقول بهذا، لكن عندما يجعل صفات الإنسان المذموم هو «السلبي الذي يأخذ ولا يعطي ويستهلك ولا ينتج...» دون تنويه إلى مركزية الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ودون تقييد ذلك بأهمية التعبد لله تعالى طلبًا لرضاه والفوز بالجنة والنجاة يوم الحساب، وأنَّ ذلك هو الغاية التي خلقنا أساسًا لأجلها، فإن كل ما سبق بيانه يلزمه.

4- إنَّ حقيقة مشكلة القوم هي جعل المنافع العامة والمعاملات بين الناس بالأخلاق والتضحية في سبيل التقدم والرقي هدفًا وغاية للدين، فتجدهم يقرِّرون دون أي لبس أو تمويه أنَّ عمارة الأرض هي الغاية التي خُلِق لأجلها البشر، وما العبادات إلَّا وسيلة لتحقيق تلك الغاية، فعندهم أنَّ الإيمان بالله واليوم الآخر والتعبد لله مهمٌ لأنه يساعد على عمارة الأرض ورقي المجتمع بزعمهم، وقد عرف دائهم ووصفه بدقة العلامة الندوي رحمه الله فقال عند الكلام عن الفرق بين دعوة الجماعات الإسلامية إلى الإيمان باليوم الآخر وبين دعوة الأنبياء عليهم السلام: «ولم تكن دعوة الأنبياء إلى الإيمان بالآخرة أو الإشادة بها كضرورة خلقية أو كحاجة إصلاحية، لا يقوم بغيرها مجتمع فاضل ومدنية صالحة، فضلًا عن المجتمع الإسلامي، وهذا وإن كان يستحق التقدير والإعجاب، ولكنه يختلف عن منهج الأنبياء وسيرتهم ومنهج خلفائهم اختلافًا واضحًا، والفرق بينهما أن الأول ـ منهج الأنبياء ـ إيمان ووجدان، وشعور وعاطفة، وعقيدة تملك على الإنسان مشاعره وتفكيره وتصرفاته، والثاني اعتراف وتقرير، وقانون مرسوم، وإن الأولين يتكلمون (عن الآخرة) باندفاع والتذاذ ويدعون إليها بحماسة وقوة، وآخرون يتكلمون عنها بقدر الضرورة الخلقية والحاجة الاجتماعية، وبدافع من الإصلاح والتنظيم الخلقي، وشتان ما بين الوجدان والعاطفة، وبين الخضوع للمنطق والمصالح الاجتماعية». (النبوة والأنبياء في ضوء القرآن، ص: 50)

5- مصطلح «السلبي» و«السلبية» من الدخيل على اللغة العربية المعاصرة من الترجمة عن الفرنسية والإنكليزية، فهو من الكلمات المجملة التي يقول فيها شيخ الإسلام رحمه الله: «إطلاق ‌الألفاظ ‌المجملة إيهام لمعاني فاسدة» (مجموع الفتاوى 6/ 97) وقال في موضع آخر: «لا يعدل إلى هذه الألفاظ المبتدعة ‌المجملة ‌إلا ‌عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد بها» (منهاج السنة النبوية 2/ 554) وقال أيضًا: «وأما الألفاظ ‌المجملة فالكلام فيها بالنفي والإثبات دون الاستفصال يوقع في الجهل والضلال، والفتن والخبال، والقيل والقال، وقد قيل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء» (منهاج السنة النبوية 2/ 217)

وهذا هو حال هذا المصطلح «الإنسان السلبي»، فهو ليس من الألفاظ التي وردت في الكتاب والسنة في وصف أعمال الإنسان وتقييمها، وحقيقة الأمر هي: أنَّ كلام الله عز وجل واضح لا لبس فيه، واستخدام ألفاظه وتحريفها يفضح المتكلم مباشرةً فلذلك يلجأ المبتدع عادةً إلى وضع ألفاظٍ ومصطلحاتٍ أخرى لقصد التمويه وتمرير بدعته دون أن يشعر أحد بخطورتها وفداحتها، ومن هذا القبيل مصطلح «الإنسان السلبي» فإن القوم استبدلوا به ألفاظ القرآن الدالة على ذم تصرفات الإنسان كالفاسد والظالم وغيرها، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ ‌بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)﴾ [آل عمران] وقال: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ‌الْمُفْسِدِينَ (١٠٣)﴾ [الأعراف]، وقال: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ ‌بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠)﴾ [يونس]، فهؤلاء جميعًا استحقوا الوصف بالمفسدين، لأنها كفروا بالله وما عدا ذلك ففساده بحسبه ولا يستحق الوصف بالإطلاق إلا الكافر أو المشرك أو من قاربهما، وأما الوصف بالسلبية فهو وصفٌ حمَّال وجوهٍ لا يلزم منه الذم دائمًا، بل قد يكون دالًّا على المدح والثناء أحيانًا، ففي الفتنة يجب أن يكون المسلم سلبيًّا بمعنى عدم المشاركة فيها والانطواء على نفسه وأهله، وعندما يكون ضعيفًا ليس عنده قوة فيجب أن يكون سلبيًّا بمعنى الصبر على أذى الكفار والظالمين وكف اليد، بل قد يختلف الوصف بالسلبي بين حال الشخص في الدنيا والآخر، فالكافر قد تكون له أعمال صالحة في الدنيا فيثيبه الله عليها في الدنيا فقط وهو والحالة هذه لم يكن سلبيَّا مع أن مصيره النار، بينما المؤمن فإن الله يثيبه على أعماله الصالحة في الدنيا والآخرة، أخرج مسلم (2162) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عيله وسلم: «إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنةً، يُعطَى بها في ‌الدنيا ويُجزَى بها في الآخرة. وأما ‌الكافر فيُطعم بحسناتِ ما عمل بها لله في ‌الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنةً». وأخرجه مسلم أيضًا بلفظ: «إنَّ الكافر إذا عمل حسنةً أطعم بها طعمةً من الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدَّخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقًا في الدنيا على طاعته».

6- من العجيب أنه اقتبس من القرآن الكريم جزءًا من آية لو ذكرها كاملة لدلَّت على نقيض تفسيره المنحرف عن الإنسان، فكتب: «وهو كَلٌّ على مولاه»، وهذا اقتباس باللفظ وآخر بالمعنى وهو: «أينما ذهب لا يحقق خيرًا ولا ينفع أحدًا». وكلا الاقتباسين من آية واحدة وهي قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ ‌كَلٌّ ‌عَلَى ‌مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)﴾ [النحل]؛ ومعناها الصحيح هو ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله في تفسيرها: «فهذا مثل ضربه الله تعالى للأصنام التي لا تسمع، ولا تنطق، ولا تعقل، وهي كَلٌّ على عابدها. يحتاج الصنم إلى أن يحمله عابده، ويضعه ويقيمه ويخدمه. فكيف يسوُّونه في العبادة بالله الذي يأمر بالعدل والتوحيد؟ وهو قادر، متكلم، غني، وهو على صراط مستقيم في قوله وفعله. فقوله صدق ورشد ونصح وهدى، وفعله حكمة وعدل ورحمة ومصلحة. هذا أصح الأقوال في الآية، وهو الذي لم يذكر كثير من المفسرين غيره» (مدارج السالكين 1/ 28 طبعة عطاءات العلم)

ومن جميل أسماء بعض قواعد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قوله: «فصل: فيه قاعدة شريفة وهي أن ‌جميع ‌ما ‌يحتج ‌به ‌المبطل ‌من ‌الأدلة ‌الشرعية والعقلية إنما تدل على الحق؛ لا تدل على قول المبطل» (مجموع الفتاوى 6/ 288)

7- أخيرًا فإن الاعتصام بكلام النبي صلى الله عيله وسلم أفضل بكثيرٍ من هذه المجملات التي تحتاج إلى تكلّف لتوجيهها إلى الوجه الحسن إن كان هو المقصود، كيف وهو الذي أوتي جوامع الكلم صلى الله عيله وسلم، فعندما أراد عليه الصلاة والسلام توجيه المسلم إلى أن يكون صاحب جدٍّ واجتهاد، ونفع عامٍّ، يؤدي المقصود من حض المسلمين على رفع الهمة ودفع الكسل قال: «‌المؤمن ‌القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خيرٌ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزنَّ. وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قُلْ: قدر الله وما شاء فعل. فإن لو تفتح عمل الشيطان» (صحيح مسلم: 2052)

فنبه صلى الله عليه وسلم على أنَّ الايمان شرط لا بُدَّ منه، وحضَّ على الجدِّ والنشاط، وأن المؤمن المتصف به أحبُّ إلى الله، ولم يذمَّ (الإنسان السلبيَّ) ذمًّا مطلقًا، بل وصفه بالخيرية وأخبر أن الله يحبه لإيمانه، فلا يجوز ذمُّه وتنزيل الآيات التي نزلت في المشركين عليه. وذكَّر صلى الله عليه وسلم بضرورة الاستعانة بالله عزَّ وجلَّ، ثم حذَّر من مداخل الشيطان. فهذا كلامٌ قليلٌ بليغٌ وجيز أدى به المقصود، فاللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد، وعلى أصحابه ومن سار على هداه ونهجه إلى يوم الدين.

 

لمزيد من المقالات الراصدة لفكر القرضاوي وغيره عن حقيقة الإسلام والدين انظر:

حقيقة عقيدة التوحيد عن القرضاوي

هل شرعت العبادات صيانة للنفوس عن العدوان والبغي والظلم

عمرو خالد وحكمة الخلق

الاستخلاف هو عمارة الأرض

ترغيب الناس بالسجود بتعظيم فوائده الدنيوية

هل جاء الدين لتنظيم الحياة وعمارة الأرض

القرآن وتعزيز القوى العقلية

تعاليم القرآن الحقيقية

هل هدف الرسالة هو إصلاح الأخلاق؟

 

جميع الحقوق محفوظة لدى موقع دراسات تفسير الإسلام ©